يتوفر النموذج السياسي اللبناني على خاصية إقليمية يتميز بها على غيره من الدول العربية. فمن ناحية تتقاطع في هذا النموذج مصالح واستراتيجيات وعلاقات إقليمية ودولية: الصراع العربي الإسرائيلي، والصراع الأميركي الإيراني، والانقسامات والاصطفافات الطائفية على مستوى المنطقة، والصراع الفلسطيني - الفلسطيني. من ناحية أخرى ضعف الدولة اللبنانية، الأمر الذي جعلها دائما قابلة لأن تكون ساحة لحروب الآخرين وصراعاتهم. حتى السياسات الداخلية والخارجية للبنان مرتهنة غالبا لمصالح وحسابات خارجية، وليس لمصالح لبنان نفسه. خاصية لبنان الإقليمية هي نقطة ضعفه المركزية. الغريب أن هذه الحالة، وما تمثله من خطورة على مستقبل البلد ليست كافية، كما يبدو، لأن تشكل نقطة التقاء بين القوى السياسية اللبنانية في سبيل تجاوزها. الأسوأ أن عوامل الداخل تتواطأ مع عوامل الخارج لتعميق هذه الحالة وليس لتجاوزها. دائماً ما شكل عمق التركيبة الطائفية وعراقتها في المجتمع اللبناني، وما يرتبط بها من مصالح فئوية، ورقة سياسية توظفها قوى الخارج لمصالحها قبل المصلحة اللبنانية. بل إن القوى السياسية اللبنانية ذاتها ارتبطت بهذه التركيبة إلى درجة تكاد تتماهى فيها مصالحها مع مصالح الخارج. وهو ما يفسر أن هذه القوى لا ترى غضاضة في أن يرتبط دورها في الداخل مع قوى الخارج. لا تنظر هذه القوى إلى هذا الأمر على أنه يتناقض مع الوطنية، بل يتكامل لها. النتيجة أن النموذج اللبناني أصبح مفتوحا على مصراعيه لكل تأثيرات وتدخلات الخارج، بأسماء وشعارات وتبريرات مختلفة. اختلافات وتباينات هذه الأسماء والشعارات الخارجية لا تعدم من يتلقاها ويتقبلها في الداخل اللبناني لأسباب ومصالح أيضاً مختلفة ومتباينة. في السابق كانت الهيمنة على الداخل اللبناني لسوريا، وبالتالي كانت تدخلات الآخرين في لبنان تمر عبر بوابة التصفية السورية، أو تصطدم بهذه البوابة. مع خروج سوريا من لبنان في أعقاب اغتيال رفيق الحريري لم تعد هناك بوابة. الإيرانيون، والفلسطينيون والأميركيون، وغيرهم يريدون أن تكون لهم كلمة، أو موطئ قدم داخل لبنان. الكل يريد أن يؤثر في النموذج اللبناني بطريقته، وبما يخدم مصالحه. بدورها سوريا خرجت عسكرياً من لبنان، لكن لبنان بنموذجه وأهميته لم يخرج من سوريا. الجديد أن الإرهاب يريد أن يكون له حصة في لبنان. ما تجب ملاحظته انفتاح النموذج اللبناني، وقابليته للاختراق. إصرار كل طائفة على الاحتفاظ باستقلالها وامتيازاتها أدى إلى تقاسم الطوائف لكثير من حقوق وامتيازات الدولة. للتغطية على ذلك اخترع اللبنانيون اسماً لهذا النموذج، وهو "الديمقراطية التوافقية". وهذا ليس أكثر من تبرير أيديولوجي تستخدمه كل طائفة من الطوائف اللبنانية في خطابها السياسي. ضعف الدولة، وارتباط كل طائفة فيها مع الخارج، تضافرا لجعل لبنان ساحة لصراع الآخرين. المواجهة العسكرية مع جماعة "فتح الإسلام" في نهر البارد، وهي جماعة إرهابية صغيرة، تكشف عن المدى الذي وصل إليه ضعف هذه الدولة. حتى حقها في حسم الموقف مع هذه الجماعة أصبح محل تجاذب. الآن قارن ذلك مع قدرة "حزب الله" الصيف الماضي على إدارة أطول معركة عربية مع إسرائيل، ولأكثر من شهر. وللتذكير فقط، تملك إسرائيل أقوى جيوش المنطقة. في هذا الإطار لم يكن شاذاً تماماً إصرار "حزب الله" على حقه في الاحتفاظ بسلاحه، وحقه في إدارة علاقاته الخارجية بمعزل عن الدولة اللبنانية. بل كثيراً ما ردد الأمين العام لـ"حزب الله"، حسن نصر الله، بأن الحزب لا يمكن أن يتخلى عن سلاحه وحقه في المقاومة إلا عندما تكون هناك دولة حقيقية وقوية قادرة على حماية لبنان في وجه إسرائيل. وهذا اعتراف واضح بضعف الدولة، لكنه اعتراف يتجاهل أن "حزب الله"، مع بقية القوى السياسية الأخرى، هو السبب وراء التركيبة السياسية التي أضعفت الدولة، ودفعت بكل طائفة للعمل على حماية حقوقها بنفسها، وإن تصادمت في ذلك مع الدولة. بل يمكن القول بأن كل طائفة في لبنان تستغل ضعف الدولة لتعزيز قدراتها وإمكانياتها السياسية. يمثل "حزب الله" الطائفة الشيعية. وبالتالي فهو معني بالدرجة الأولى بتعزيز الدور الشيعي وثقله في هذه التركيبة. و"حزب الله" ليس استثناءً هنا، لأن القوى السياسية التي تمثل الطوائف الأخرى تفعل الشيء نفسه. ما علاقة ذلك بالإرهاب؟ الشائع أن الإرهاب ظاهرة فرضتها ظاهرة التطرف الديني التي انتشرت في العالم العربي في العقود الثلاثة الأخيرة. وعندما تستمع إلى اللبنانيين ستجد من يقول لك الشيء ونقيضه في الوقت نفسه. هناك من يقول لك بأن جماعة "فتح الإسلام" مدفوعة وممولة من قبل النظام السوري لنشر الفوضى الأمنية وعدم الاستقرار السياسي في لبنان. وهناك من يقول لك عكس ذلك تماماً، وهي أن هذه الجماعة ممولة في الأساس من قبل قوى الأكثرية اللبنانية، وتحديداً تيار المستقبل لتشكل توازناً طائفياً مع القوة العسكرية لـ"حزب الله" الشيعي. ثم هناك تداخل ظاهرة "فتح الإسلام" مع واقع المخيمات الفلسطينية في لبنان، وتشابكه مع التركيبة السياسية اللبنانية وامتداداتها الإقليمية. ظهور "فتح الإسلام"، وإصطدامها مع الجيش اللبناني في هذه اللحظة يمثل امتداداً للظاهرة الإرهابية على مستوى المنطقة ككل. من يقول بأن الإرهاب يعكس حالة التطرف الديني ثم يقف عند ذلك، لا يقول شيئاً مفيداً في الأخير. فلا التطرف شيئاً جديداً، ولا السلفية الدينية التي أفرزته أمراً جديداً أيضاً. بل إنها حركة إسلامية قديمة، وكانت موجودة قبل قرون عدة. لماذا ظهر الإرهاب الآن، وأصبح حركة تهدد الدول والمجتمعات في هذه الظروف الإقليمية والمحلية في وقتنا الحاضر؟ لاحظ هنا أن الإرهاب صنع أولاً في أفغانستان، ثم الصومال. بعد ذلك جاء العراق اثر الغزو الأميركي ليتحول في خضم مقاومة الاحتلال إلى أكبر حاضنة للإرهاب. بعد أفغانستان أصبح العراق يصدر جماعات العنف والإرهاب إلى دول المنطقة. بروز "فتح الإسلام" في شمال لبنان، و"جند الشام" في جنوبه، هو نمو آخر للظاهرة نفسها. ما الذي يجمع بين هذه الأمثلة؟ هذه الدول التي ظهر الإرهاب واستوطن فيها تعاني ليس فقط من ضعف الدولة، بل من فشلها. في لبنان تبدو الدولة في طريقها للفشل. وهذا تخوف يردده اللبنانيون أنفسهم. وحتى الدول التي استخدمت الجماعات الدينية المتطرفة لأغراض سياسية، لم تفعل ذلك كجزء من استراتيجية واضحة، بل تعبيراً عن ضعف الدولة فيها. الإرهاب الآن يضرب تقريباً في كل أرجاء العالم العربي، من مغربه إلى مشرقه. حجم الظاهرة يوحي بنوع الخطر القادم. سقطت الدولة في العراق، فغرق في العنف والإرهاب. في لبنان تتعرض الدولة للتآكل بفعل الطائفية، واختناق اللعبة السياسية فيه. ظهور حركة "فتح الإسلام" مؤشر على أن الدولة اللبنانية وصلت إلى حالة من الضعف قد تؤدي إلى تكرار النموذج العراقي. بعبارة أخرى، يقدم النموذج اللبناني، وظاهرة فتح الإسلام فيه، حالة أخرى على العلاقة الوثيقة بين ظاهرة الإرهاب من ناحية، وضعف الدولة العربية، من ناحية أخرى.