جلس الجنرال الإسرائيلي موشيه دايان في مكتبه بوزارة الدفاع منتفخاً ثقة وحماساً ليقول لجمع الصحفيين والمراسلين الغربيين الذين تجمعوا حوله: أيها السادة إنني أنتظر الآن مكالمة تلفونية من الكولونيل ناصر (الرئيس جمال عبدالناصر) يبلغني باستسلامه لنحدد شروط الاستسلام والصلح. كان ذلك صبيحة يوم من أيام يونيو قبل أربعين عاماً. ويقول أحد الصحفيين الذين شهدوا هذه الواقعة التاريخية إن "نفخة" الجنرال ديان -الذي يمثل لدى غالبية الإسرائيليين صورة المحارب اليهودي الأسطوري البطل- تلك كانت تبدو لمعظم الحاضرين آنذاك منطقية جداً. فالحرب الخاطفة التي شنتها إسرائيل صبيحة يوم الخامس من يونيو 67، والتي دمر فيها الطيران الإسرائيلي تقريباً كل قوة الطيران المصري (286 طائرة كانت جاثمة على ممرات المطارات المصرية)، وما تبعها من تطورات مأساوية على الصعيد الحربي, وحالة الذهول والارتباك التي سادت ليس مصر وحدها بل العالم العربي كله خلال الأيام الستة السوداء, كانت تبدو الأوضاع معها كما لو أن النظام العربي بأسره قد انهار وأن الاستسلام العربي أمر منطقي وطبيعي. ومن هنا كانت "نفخة" دايان ذلك الصباح تبدو منطقية ليس للصحفي البريطاني وحده والحاضرين معه، ولكن حتى لبعض القيادات العسكرية العربية (آنذاك) التي حطمت روحها العسكرية تماماً مفاجأة الطيران المذهلة، وسلبتها القدرة على التفكير والتصرف الحربي السليم... اليوم وقد مرت أربعون سنة على ذكرى الخامس من يونيو كتبت خلالها عشرات الكتب وآلاف المقالات والدراسات التحليلية، ذهب معظمها طي النسيان بحكم مرور الزمن. وقد جرت على العالم العربي أحداث جسام فاق بعضها أحداث يونيو 67 في جسامته وخطورة أثره على حاضر ومستقبل الأمة، ما تزال بعض صور تلك الأيام التي لا تنسى حاضرة في الذهن وما يزال بعض صداها ورنينها المتواصل يفعل فعله في العقل الجماعي العربي. كان دايان وأصحابه ضمن قيادة إسرائيل يتصورون أن "الهجمة العبقرية" صباح الخامس من يونيو، ووقائعها المدمرة على مصر والعالم العربي هي التي ستنهي كل الحروب العربية- الإسرائيلية، وستقود العرب إلى الاستسلام للأمر الواقع، والإقرار للإسرائيليين ليس بالسيادة على فلسطين، ولكن على العالم العربي كله. لكن الذي فات دايان وإسرائيل ومن شاركوها التفكير أن استسلام أمة ما لعدو ما, هو قرار لا تحدده نتيجة معركة عسكرية ولا قائد عسكري. إنه قرار يجب أن يصدر عن ضمير الأمة, فالاستسلام للعدو والإقرار بالهزيمة الكلية، يبدأ داخل النفس والعقل الجمعي للأمة. والأمة العربية التي صحيح أن المفاجأة والضربة العسكرية الموجعة قد أذهلتاها في أيامها الأولى, سرعان ما استردت وعيها واستخرجت قوتها الكامنة أبداً بصورة حيرت نفس العالم الذي كان ينتظر إعلان استسلامها, وكان ردها الحاسم على دعوة التسليم والاستسلام "الصمود وإزالة آثار العدوان"، ذلك القرار الذي أعلنه نيابة عنها جمال عبدالناصر في لحظة من لحظات التاريخ الخالدة لهذه الأمة، التي لم تستطع كل أحداث الزمان وفواجعه الكارثية أن تحطم روحها الأصيلة التي هي دائماً مصدر قوتها ومنعتها على رغم كل "النكبات" التي توالت عليها وما تزال. نعم إن آثار حرب الأيام الستة المفجعة ما تزال تصاحبنا حتى اليوم، وما تزال تؤثر على حياتنا ووجودنا العربي. نعم وما تزال بعض أخطاء الماضي وتصوراته غير العقلانية تسعى بيننا حتى اليوم. لكن الشيء المؤكد تماماً أن تصورات القادة الإسرائيليين وأحلامهم في يونيو 67 حول الحرب التي ستنهي كل الحروب لم تتحقق، وأن العالم العربي على رغم الخلل الذي أصاب بعض بنيانه, والحروب الداخلية والخارجية التي تستنزف الأمة وقدرتها وتعمل على تعطيل نهضتها التاريخية المنتظرة، سيظل يذكر جيلاً بعد جيل, أن قرار جيل 67 بالصمود والمقاومة ورفضه الاستسلام سيبقى وثيقة الشرف ووسام العزة الذي بدونه لا تصبح للأمم والشعوب قيمة ولا لوجودها معنى. ولقد كان لقرار الصمود التاريخي أثره الايجابي العميق, فهو الذي فتح الطريق لحرب ونصر رمضان الذي باسمه تحقق ما تحقق من انتصارات ردت على هزيمة معركة يونيو 67.