ربما كان صعود الدولة الرومانية القديمة، حدثاً ملهماً للفعل والنجاح المشابهين. غير أن اضمحلال وسقوط تلك الإمبراطورية القديمة، قد يدق الآن ناقوس التحذير من مصير شبيه ربما تواجهه الإمبريالية الأميركية المعاصرة، خاصة أن هناك كثير من أوجه الشبه بين ذاك الماضي الإمبراطوري البعيد، ونظيره الأميركي المعاصر القريب. لكن مادة الكتاب الذي نعرضه هنا، لا تنحصر في هذه المقارنة التاريخية التي يجريها مؤلفه كولين مورفي، وإنما يتخطاها إلى مناقشة الكيفية التي يمكن أن تتفادى بها أميركا مصير الإمبراطورية الرومانية القديمة. وتشمل المساحة التي يغطيها المؤلف بكتابه هذا، ما يتجاوز حدود الإنهاك العسكري الذي يتعرض له الجيش الأميركي حالياً، نتيجة لتعدد الجبهات والالتزامات الدولية الواقعة على عاتقه، خاصة فيما يتعلق بالمهام المستعصية والمتصاعدة في حربي العراق وأفغانستان. وكما هو معلوم في تاريخ الإمبراطورية الرومانية القديمة، فقد كان الإنهاك العسكري، إحدى أبرز نقاط الضعف والوهن التي أصابت جسد الإمبراطورية، وأدت إلى اضمحلالها وانهيارها بفعل الغزوات البربرية لاحقاً. ومن بين أوجه المقارنات الرئيسية التي أجراها الكاتب بين إمبراطورية روما القديمة وأميركا المعاصرة؛ سيادة ثقافة العمى والانعزالية، وتفشي ظاهرة الفساد والمحسوبية، وتقديم الولاء السياسي على الكفاءة والخبرة المهنية، ومشكلة الهجرة المنفلتة والحدود المفتوحة، ثم إضعاف وضعضعة النظام السياسي بكامله، رضوخاً لضغوط رأس المال الخاص والرامية إلى خصخصة مؤسسات القطاع العام بشتى الوسائل والسبل. وعلى حد قول الكاتب، فما أكثر الشبه بين واشنطن اليوم وروما الأمس، لاسيما في استشراء الفساد الحكومي، والتعالي والصلف في التعامل مع بقية دول وشعوب العالم الأخرى. وبسبب هذا التعالي، طالما أساء الأميركيون فهْم ثقافات الشعوب الأخرى، وازدروها وكأنها لا تساوي شيئاً ذا قيمة البتة. وبسبب التعالي وسوء الفهم هذا أيضاً، طغت أحادية أميركا وتجبرها من جهة، بينما تصاعدت مشاعر العداء والكراهية لها في أنحاء العالم الخارجي من جهة أخرى. وفي هذا وردت المقارنات والشواهد على انحسار التعاطف العالمي مع الولايات المتحدة وشعبها إثر تعرضها لهجمات الحادي عشر من سبتمبر، ليتحول ذلك التعاطف إلى ضده ونقيضه، بعدما شنت حرباً عدوانية غير مبررة على العراق. وليس شن الحرب وحده هو العامل الرئيسي وراء تصاعد المشاعر المعادية، وإنما ما صحب إدارة الحرب وتحقيق غاياتها وأهدافها من تفسخ أخلاقي يتناقض تناقضاً صارخاً وكل دعاوى الدفاع عن قيم الديمقراطية والحرية وحماية حقوق الإنسان التي تكشف فيما بعد أنها أصبحت المبرر الوحيد لاستمرار واشنطن في حربها على العراق. ومثلما حدث في تاريخ روما القديمة، فقد كانت عوامل الضعف الداخلي التي نخرت عظمها وأصابته بالتسوّس، هي السبب الرئيسي لاضمحلالها وانهيارها اللاحقين، تحت ضربات وهجمات الشعوب البربرية الغازية، وهو ما ينطبق الآن على عوامل الضعف الداخلي التي دبَّت في جسد الإمبريالية الأميركية الحديثة، ما لم يتم الانتباه لعوامل الهدم الداخلي هذه ومعالجتها قبل فوات الأوان. ومن بين أوجه الشبه القوية بين روما الأمس وواشنطن اليوم، أن الأولى كانت إمبراطورية فضفاضة مترامية الأطراف، متعددة الثقافات والأديان والأعراق، وأنها كانت تنوء تحت وطأة الالتزامات والمهام العسكرية الخارجية، إضافة إلى المشكلات الحدودية التي كانت تواجهها، بالنظر إلى نفاذية تلك الحدود، والمصاعب العملية التي تحيط بخفرها وحمايتها. وفوق ذلك كله، فإن لأميركا اليوم، ذات النزعة المثالية الدينية، إذ تعتقد أن لها مهمة عالمية لابد من القيام بها إزاء باقي الشعوب والدول الأخرى، مصحوبة بنزعة ازدراء عميق لثقافات تلك الدول وتقاليدها الوطنية. ولعل المقارنة الوحيدة التي أجراها المؤلف بين الحالتين، وأخذت عليه سلباً في قراءة الكتاب والتعليق عليه من قبل بعض القراء، محاولته إبراز أوجه شبه بين الشعوب الجرمانية البربرية التي غزت روما القديمة، واستطاعت أن تدق في نعشها المسمار الأخير، وتزايد حالات شراء الشركات الأجنبية للأصول والممتلكات الأميركية والاستحواذ عليها. وقد عد البعض ذلك التشبيه من باب المجاز المستقبح الذميم، والذي يتعارض تعارضاً بيناً مع قيم العولمة التي تقودها وتدعو لها الولايات المتحدة نفسها. وكما جاء في قول أحد مؤرخي العهد الروماني: "فإن الإمبراطوريات تبقى قوية حصينة منيعة، ما بقي مواطنوها سعداء فيها". ولذلك فعلى الولايات المتحدة اليوم، التصدي لفجوة الفقر الخطيرة التي تفصل بين فئات وطبقات مجتمعها، وعليها أن تغرس في مواطنيها قيم الجماعية والعمل من أجل الخير العام، فضلاً عن غرسها لروح التعاون والتكاتف مع بقية شعوب العالم، بدلاً من أن تتعامل حكومتها مع تلك الدول، كما لو كانت شراً لابد منه، وهو ما تفعله الآن. غير أن أميركا ليست بحاجة مطلقاً لأن تشبه في شيء تلك الـ"روما" القديمة البالية التي دبّ في جسدها ركود ووهن المجتمع العبودي، خاصة مع ما يعرف عن الأولى من عمق نزعة الديمقراطية والتقدم الضاربة في تاريخها، وكذلك لما عرف عنها من ديناميكية وقوة اقتصادها، ومن سحر وتفوق تكنولوجيين، ومن قدرة دائمة على الابتكار واكتشاف الذات وإعادة اكتشافها مرات ومرات. وفي الاستنتاج النهائي الذي توصل إليه الكاتب، فإن من عبقرية أميركا الخارقة، إعادتها وتشكيلها لـ"سقوط روما" على نهجها الخاص، وقدرتها على إبدال ذلك السقوط على نحو مستمر، إلى نهوض وتقدم وعمران. وتلك هي جذوة ثورة التغيير الأميركي التي لا تنطفئ أو تموت، مهما اعترتها المحن ونوائب الدهر والإدارات السياسية الفاسدة. عبد الجبار عبد الله الكتاب: هل أصبحنا روما؟ سقوط إمبراطورية ومصير أميركا المؤلف: كولين مورفي الناشر: شركة "هوفتون مفلين" للنشر تاريخ النشر: 2007