"اتجاهات" استثمار ذكرى "النكسة"
فجّرت الذكرى الأربعون لحرب يونيو1967 سيلاً من الذكريات في الإعلام العربي والإعلام الإسرائيلي على حد سواء. ألاحظ أن الجانب الإسرائيلي يستثمر ذكريات الحدث على نحو احتفالي تعبوي في اتجاهين: الأول تعليم الأجيال التي لم تكن قد ولدت منذ أربعين سنة، مفهوم أن إسرائيل كانت مهددة من جيرانها، وذلك بتقديم سجل الأحداث الذي بادرنا فيه بدفع قواتنا إلى سيناء ومطالبة قوات الطوارئ الدولية التي كانت موجودة منذ عام 1956 بالانسحاب لإخلاء الطريق أمام القوات المصرية وإعلان إغلاق مضايق تيران ومنع السفن الإسرائيلية من المرور، وكذلك منع الشحنات الاستراتيجية المتجهة إلى إسرائيل حتى ولو كانت منقولة على سفن غير إسرائيلية. التعبئة هنا تستهدف الإبقاء على الأجيال الإسرائيلية الجديدة في حالة عسكرة نفسية وتوجس تجاه نوايا العرب، وبالتالي التربص والتحفز لإجهاض نواياهم لتدمير إسرائيل مبكراً. ببساطة يمكننا القول إن الاتجاه التعبوي الأول في الإعلام الإسرائيلي يعمل على تكريس مركب الخوف والعدوان في نفوس الأجيال الجديدة.
أما الاتجاه الثاني الذي ألاحظه، فهو يتبدى في سرد الوقائع الدالة على قدرة إسرائيل الصغيرة المهددة بالإبادة على استجماع قدراتها والانتفاض من حالة الخوف للانطلاق إلى ضرب قوى التهديد في مهدها وتدميرها على ثلاث جبهات، إنه إحياء لمفهوم البطولة الذي سعت الماكينة الصهيونية إلى غرسه، منذ نهايات القرن التاسع عشر مع بدء الفكرة السياسية التي قادها "هرتزل"، في نفوس الشباب اليهودي المهاجر من بقاع أوروبا إلى فلسطين.
جاء مفهوم البطولة اليهودية في إطار استراتيجية سميت (خلق اليهودي الجديد) المختلف عن اليهودي الذي عاش ذليلاً مستكيناً لقرون في أحياء "الجيتو"، الضيقة الرطبة القذرة التي فرض الأوروبيون المسيحيون عليه العيش فيها. لقد كان الإحياء الأدبي في الأدب العبري الحديث لمفهوم البطولة اليهودية، مستنداً إلى أسطورة الفتى اليهودي الصغير سناً وحجماً داود، الذي واجه "جوليات"، العدو العملاق مفتول العضلات في الزمن القديم، في معركة غير متكافئة القوى حسمها ذكاء داود، الذي استخدم المقلاع عن بعد في إصابة رأس "جوليات"، فأسقطه مغشياً عليه ليتمكن داود بعد ذلك من التقدم والاقتراب منه للإجهاز عليه وهو في غيبوبته. هذا الإحياء الأدبي لمفهوم أو أسطورة البطولة اليهودية يتم إنعاشه اليوم بوقائع الهجوم الإجهاضي الإسرائيلي على القوات العربية العملاقة التي حاصرت إسرائيل من ثلاث جهات في الخامس من يونيو 1967، والذي استخدم فيه مقلاع الطيران لإسقاط العملاق العربي على الأرض مفكك القوى في البداية ثم التقدم نحوه بالقوات البرية والإجهاز عليه.
في المقابل، ألاحظ أن الاستثمار الإعلامي العربي للذكريات، يأخذ منحىً محموداً، منحىً نقدياً ذاتياً إيجابياً يقدمه الجيل الذي شارك في الأحداث إلى الأجيال العربية الجديدة، سواء من كبار العسكريين الذين شاركوا على الجبهات الثلاث ورفع عنهم حظر الكلام بعد أربعين عاماً، أو من الكتاب والإعلاميين. الاستثمار العربي يستحق الاحترام، فهو يتحلى بشجاعة الاعتراف بالأخطاء التي أدت إلى وقوع الهزيمة سواء جاءت من المستوى القيادي السياسي أو العسكري، ويبرز في نفس الوقت الكيفية التي تم بها الانتفاع بهذه الأخطاء كدروس مستفادة في الإعداد الناجح في وقت قياسي لم يتجاوز ست سنوات لمعركة كبرى ظافرة هشمت أساطير إسرائيلية عديدة، أهمها أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، وأسطورة العدو العربي ضخم الجثة أبله العقل، والذي لن يجسر مرة أخرى على التفكير في مهاجمة القوات الإسرائيلية التي افترشت أرضه على ثلاث جبهات.
لقد استمعت باحترام إلى نموذج من الجنرالات العرب، وهو اللواء عبدالمنعم خليل قائد لواء المظليين الذي كلف بالتوجه إلى شرم الشيخ وإغلاق مضايق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية. لقد روى الرجل في تركيز طبيعة الأخطاء السياسية والعسكرية التي أدت للهزيمة ومنعته من أداء مهمته وبعثرت الجيش المصري لقمة سائغة للعدو في سيناء. أوضح اللواء أن القرار القيادي كان متردداً إلى درجة أنه خاطب القاهرة ليسأل، هل يقفل مضيق تيران أم لا نظراً لتضارب الأوامر الصادرة إليه، وأوضح عدم جاهزية القوات المصرية إلى درجة أن جنوداً وصلوا الميدان بالجلابيب، وبيّن خطورة قرار الانسحاب الارتجالي على سلامة القوات بدلاً من الثبات وخوض القتال لحرمان العدو من نصر سهل لم يكن يستحقه، لو ثبت الرجال في مواقعهم، إنه استثمار شجاع للذكريات.