انقلاب "حماس" ومسؤولية إسرائيل عن الفوضى الفلسطينية
كان التحرك العنيف الذي أقدمت عليه "حماس" في قطاع غزة وسيطرتها على السلطة فيه، كفيلاً بإغراق المراقبين الدوليين والمتابعين للساحة الفلسطينية في حال من الذهول وإثارة الأسئلة المستعصية حول مستقبل الوضع الفلسطيني من ناحية، والأسباب التي قادت إلى هذه التطورات من ناحية أخرى. فكيف وصلت الأمور إلى هذه المرحلة؟ ولماذا لم ينجح اتفاق مكة، الذي عقد بين الأطراف الفلسطينية المتصارعة برعاية سعودية، في إخماد فتيل النزاع، رغم تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية؟ ولماذا أيضاً ظلت المبادرة السعودية للسلام، التي أجمعت عليها الدول العربية، عالقة دون إيلائها الاهتمام المطلوب من قبل إسرائيل، أو الولايات المتحدة؟ ثم أليس ما يجري اليوم بين الفصائل الفلسطينية إيذاناً بانتهاء مبدأ قيام الدولة الفلسطينية المستقلة؟ وكيف يمكن تفسير ما وصلت إليه الأمور بين "فتح" و"حماس" من سوء في الوقت الذي يعاني فيه الشعب الفلسطيني من وضع إنساني بالغ التردي يقترب من حالة اليأس؟
ومع ذلك يبقى السؤال الأهم هو ما إذا كان الفلسطينيون سينجحون في ترميم وحدتهم الوطنية وإعادة بناء مؤسساتهم، أم أنهم سيُمعنون في المواجهات الدامية ومن تم الإجهاز النهائي على قضيتهم. فقد تجاوز الطرفان معاً، في "فتح" و"حماس"، الخطوط الحمراء التي وضعوها وأخذوا يتبادلون الاتهامات ويحملون بعضهم البعض مسؤولية التطورات الأخيرة والتعاون مع إسرائيل. ويأتي ذلك بينما تُحمل الأمم المتحدة في وثيقة أصدرتها مؤخراً مسؤولية تقويض المؤسسات الفلسطينية للولايات المتحدة بسبب رفضها التعامل مع حكومة "حماس" المنتخبة، فضلاً عن دورها الكبير في إضعاف العناصر المعتدلة في السلطة الفلسطينية، التي تؤكد أنها تريد مساعدتهم. وتأتي هذه التطورات المؤسفة أيضاً على الساحة الفلسطينية في الوقت الذي حمل فيه التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية مسؤولية خنق الاقتصاد الفلسطيني للسلطات الإسرائيلية التي تعيق حركة السير وتغلق المنافذ في وجه البضائع والمنتجات الفلسطينية.
وأضاف التقرير أيضاً أن "الفلسطينيين الذين يعانون من غياب العدل وانعدام الأمل في انتهاء الاحتلال وانسحابه من أراضيهم يتجهون، وهم في معظمهم من الشباب، نحو المزيد من الراديكالية". ولا شك أن حركة "فتح" تتحمل جزءا كبيراً من المسؤولية، حيث ظل الرئيس "محمود عباس" الذي أبان عن ضعف مريع يعول على تدخل أميركي لصالحه، أو الضغط على إسرائيل لبدء مفاوضات لم تأتِ قط. ولأنه اكتسب سمعة السياسي المعتدل، ارتسمت له في أذهان الكثير من الفلسطينيين صورة القائد الضعيف الذي لا يستطيع ضبط الوضع الأمني في الأراضي الفلسطينية، أو وضع حد للفلتان الأمني الذي روع الفلسطينيين لفترة طويلة. والأكثر من ذلك الحياة المرفهة التي يعيشها بعض مسؤولي "فتح" مقارنة مع البؤس الذي يغرق فيه الفلسطينيون وما لذلك من دور في تراجع شعبية الحركة لدى شريحة واسعة من الفلسطينيين. لكن "حماس" التي لعبت على كل ذلك لانتزاع السلطة لم تحسب جيداً حساب معركة الرأي العام الدولي الذي يتعين خوضها. فإذا كانت عملية إطلاق الصواريخ من قطاع غزة على إسرائيل عديمة الجدوى من الناحية العسكرية، إلا أنها تنطوي على تداعيات كارثية فيما يتعلق بالرأي العالم الدولي المعارض لها.
وإزاء هذا الاجتياح الذي أقدمت عليه "حماس" في قطاع غزة وسيطرتها على مقار السلطة الفلسطينية وما تلا ذلك من قرارات اتخذها الرئيس "محمود عباس" بتشكيل حكومة الطوارئ وإقالة رئيس الحكومة "إسماعيل هنية"، سارع الأميركيون والأوروبيون إلى إعلان تأييدهم لـ"محمود عباس" وطالبوا بمساعدته. لكن ألم يأتي هذا الدعم متأخراً عن ميعاده، ألم يؤكد "محمود عباس" على رغبته في التفاوض مع إسرائيل وأبدى مرونة غير مسبوقة فماذا جنى من كل ذلك؟ الواقع أنه لم يجنِ شيئاً عدا مشاركته في بعض الاجتماعات العقيمة وسماعه بعض التصريحات الإيجابية التي فشلت في تحقيق شيء ملموس على أرض الواقع. ورغم انفتاح "محمود عباس" على إسرائيل، إلا أن هذه الأخيرة لم تبدِ إلى الآن استعدادها لبدء مفاوضات جدية، وهو ما أفقد الرئيس الفلسطيني مصداقيته.
وجاء القرار الذي اتخذه الغرب بقطع المساعدات عن السلطة الفلسطينية بمجرد مشاركة "حماس" في تشكيلتها ليزيد من تعميق حالة الفوضى داخل الأراضي الفلسطينية. ولم تكن المساعدات التي قدمت للشعب الفلسطيني بعد ذلك سوى تعويض بسيط عن استحالة تطوير الاقتصاد الفلسطيني واعتماده على إمكاناته الذاتية في ظل ممارسات الاحتلال الإسرائيلي. فلو كان الفلسطينيون يتمتعون بحرية الإنتاج والتنقل وتصدير منتجاتهم لما كانوا أصلاً بحاجة إلى مساعدات خارجية، فضلاً عن أن تحويل المساعدات إلى المنظمات غير الحكومية لم يسهم في تخفيف المعاناة عن الشعب الفلسطيني، بل ساهم في إضعاف مؤسساتهم الوطنية. ورغم التحذيرات التي أطلقها المراقبون الدوليون من مغبة الاستمرار في عزل الشعب الفلسطيني، فإن إسرائيل رفضت الإصغاء إلى تلك التحذيرات وتغاضى المجتمع الدولي عن ذلك، متسبباً فيما نراه اليوم.
وفي ظل تردي الوضع الفلسطيني، يتعين على إسرائيل ألا تستكين إلى ما يجري وتبتهج له، فالحسابات قصيرة المدى تشير فعلاً إلى أن المواجهات الداخلية بين الفلسطينيين تصب في مصلحة الدولة العبرية لما تسهم فيه من تخفيف الضغط على إسرائيل وتأخير المفاوضات ليتيح ذلك تبريراً إضافياً لإسرائيل في التهرب من السلام بدعوى أن الفلسطينيين يتقاتلون فيما بينهم.
المشكلة هي أنه حتى عندما كان الفلسطينيون على وئام لم يتحقق أي تقدم على مسار السلام، ولم تقدم إسرائيل أية تنازلات واضحة. كما أن الانسحاب الأحادي من قطاع غزة، أظهر محدودية على غرار السياسات الأحادية كافة، لذا لا يمكن اعتباره تنازلاً، كما لا يمكن إعفاء إسرائيل من مسؤولية ما يجري حالياً في الأراضي الفلسطينية. فبسبب تعنت الدولة اليهودية ورفضها التفاوض مع "محمود عباس" تمكنت "حماس" من السيطرة على قطاع غزة؛ وإذا ما استمرت سياستها في عزل الفلسطينيين ومحاصرتهم فإنها لن تجني سوى المزيد من الفوضى التي لن تبقى حبيسة الأراضي الفلسطينية.