التعليم الجامعي ليس من حق الجميع
من أطرف الأمور في التعليم الجامعي, أن الدكتور غالباً ما يسأل الطلبة: هل يوجد شيء غير مفهوم؟ فلا يجد رداً! ثم يسأل: يوجد أحد لم يفهم الموضوع؟.. أيضاً لا يجد رداً! فيعتقد، بحسن نيّة أن الطلبة فاهمون, فيسألهم من باب التأكد عن موضوع الدرس الذي تم شرحه، فلا يجد رداً!! وأذكر أنني سألت الطلبة عن سر هذا الصمت الغريب, عدم الإجابة على أسئلتي! فقال أحدهم: ما الفائدة يا دكتور من المقرر الدراسي كله, ونحن لن نحتاجه في المستقبل, ولا حتى في الوظيفة. فسألت الطلبة مرة أخرى: لو حصل لكم وضع هذه المعلومات في كبسولة يمكن أن تؤخذ مع الماء صباحاً ومساء, هل كنتم ستحضرون المحاضرة؟ أجاب معظمهم: بالطبع ..لأْ, يا دكتور. يومئذ آمنت أن التعليم ليس من حق الجميع, بل هو حق لمن يستحقه بجدارة. والحقيقة أن مؤسسي الدولة العربية الحديثة, حين اختاروا مجانية التعليم, وهي الفكرة التي طرحها ونفذها, عميد الأدب العربي, المرحوم د. طه حسين, لم يتوسَّعوا في هذا المنح في التعليم بدون حدود, بل توقفوا عند تعليم المرحلة المتوسطة, باعتبارها مرحلة يتخرج منها الطالب متعلماً بشكل جيد في القراءة والكتابة. بل شهدت المجتمعات الخليجية مسؤولين كباراً لم يتعدوا تعليم المرحلة المتوسطة. لكن وبقدرة قادر, امتدت مجانية التعليم لتشمل التعليم الجامعي, لكل من حصل على نسبة مئوية معينة, وغالباً ما تكون هذه النسبة ليست مرتفعة, بل هي مما يحصل عليه التلميذ العادي. واليوم، أصبح التعليم الجامعي حقاً للطالب دون أسس منطقية. بل وأدى التوسع في قبول الطلبة بنسب متدنّية نسبياً إلى كارثة البطالة المُقنَّعة, التي نراها في الوزارات حيث لا عمل حقيقياً للموظف صاحب الشهادة الجامعية, وبطالة سافرة لمن ينتظر قبوله للتوظيف في مؤسسات الدولة, خاصة وأن غالبية الطلبة يتخرجون من الجامعة وهم صفر اليدين من إجادة اللغة الإنجليزية, وعلوم الحاسوب.
واليوم لا يريد المسؤولون عن التعليم الجامعي, أو صاحب القرار الإقدام على أخذ القرار الصائب بإعلان أن التعليم الجامعي ليس حقاً لجميع خريجي الثانوية العامة ممن حصلوا على نسب معينة, تعد متدنِّية بالمقياس العام، بل هو حق فقط لمن يستحقه, ممن يريدون فعلاً التعليم الجامعي ويرغبون فيه للمزيد من التقدم العلمي. والذي يجب أن يحصل اليوم, ولو أن مشكلة البطالة قد تفاقمت, إلا أن الواجب يفرض على صانع القرار إحداث نقلة نوعية في التعليم الجامعي لمن يستحق ذلك فعلاً, وتحويل بقية الطلبة إلى المعاهد الفنية المتخصصة التي تحتاجها الدولة. وإذا كانت الدولة بحاجة إلى ألف مهندس مثلاً, فإنها بحاجة إلى آلاف الفنيين التقنيين, للحلول محل العمالة الوافدة التي باتت خطراً يهدد الأمن الاجتماعي. ومن المعيب حقاً, أنه برغم وجود الآلاف المؤلفة من الخريجين, لا تزال الدول الخليجية تعاني من نقص حاد في مدرسي اللغة العربية!! والمجالات العلمية. والقلة القليلة التي تتخرج من الطلبة الجيدين, لا ترغب في الانخراط بسلك التعليم العادي!!
وقد يحتج البعض بمدى تطور التعليم الجامعي الخاص, لكن تبقى الحقيقة المؤلمة, وهي أن هذه الجامعات لا تمثل ضمانة حقيقية للتحصيل العلمي من جهة, ومن جهة أخرى سيظل الطالب المتخرج بحاجة إلى الوظيفة العامة, يعني... "وكأنك يا بو زيد....ما غزيت". وبالتالي لا يوجد أمامنا سوى الاعتراف بفشل التعليم الجامعي عندنا, حيث لم يتم الاعتراف بأي جامعة عربية على المستوى الدولي، في حين حصلت إسرائيل على سبع جامعات معترف بها من الاختصاصيين الدوليين!!