فلسطين 2007... زمن الانقلابيين والانفلاتيين
هل بدأت الثورة والمقاومة الفلسطينية تأكل أبناءها؟ يبدو أنه صار أكيداً أنه كلما انتهى الثوار من ثورتهم ومن انتصارهم في تحرير أوطانهم، فإنهم يبدؤون في تصفية بعضهم بعضاً، ولكن في فلسطين الثورة لم تنته والتحرير لم يتم، فهل كان يكفي الفلسطينيون أن يحصلوا على قطعة أرض ليس لهم عليها سلطة كاملة، كي يهدموا جهود سنوات طويلة من المقاومة ويهدروا دماء عشرات الآلاف من الشهداء؟ ما حصل في فلسطين أقل ما يمكن أن يوصف بأنه فضحية ووصمة عار على جبين كل سياسي في فلسطين.
ألم يفكر الفلسطينيون وهم يتقاتلون في أولئك الأشخاص في أنحاء العالم الذين أفنوا حياتهم من أجل الدفاع عن الحق الفلسطيني وأولئك الذين تركوا أوطانهم من أجانب وغيرهم وجاءوا إلى فلسطين ليقفوا في وجه الدبابات الإسرائيلية، وماذا سيكون ردهم إذا ما قامات "راشيل" من قبرها وسألتهم: بأي عذر تقتتلون؟ وهي الشابة الأميركية التي دفعت روحها ثمناً تحت الجرافات الإسرائيلية من أجل قضية، هي ليست قضيتها، وإنما لأنها آمنت بها بكل جوارحها؟! يبدو أن كل ذلك لم يكن في حسبان المقاتلين الأشاوس وهم يقتلون أخوتهم لا لشيء إلا لتعصبهم وتكبرهم على بعضهم بعضاً!
لقد تساءل ملايين المسلمين في العالم وأصدقاء الشعب الفلسطيني من الشرق إلى الغرب كيف يمكنهم أن يستمروا في دعم القضية ويقفوا وراء الفلسطينيين بأموالهم وأصواتهم، والعالم يرى أن لدى الفلسطينيين كامل الاستعداد، كي يقتلوا بعضهم بعضاً من أجل كرسي ومنصب ومن أجل مصالح شخصية! وبعد الأحداث الأخيرة، بدأ العالم يشعر بأن الفلسطينيين ليسوا مهتمين بتحرير أرضهم أو قيام دولة، وإنما كل ما يهم رجال السلطة في فلسطين هو المحافظة على مكتسباتهم وسلطاتهم التي حصلوا عليها في زمن الاحتلال وزمن الفوضى، والتي قد لا تدوم بعد قيام دولة أو حتى أثناء وجود سلطة وقانون. فهل هذا ما يريده الفلسطينيون؟
لا أحد من الطرفين بريء وكلاهما يتحمل مسؤولية الخسارة التي لحقت بالقضية الفلسطينية... إذا وقف الشعب العربي اليوم مع "فتح" ليس لأن "فتح" كانت الأفضل، ولكن لأن الشعب الفلسطيني في زمن "فتح" -على الرغم من كل الفساد المنسوب إلى "فتح" والمثبت عليها- لم يكن ليضطر لأكل "زيت وخبز هنية" وإنما سيكون قادراً على أكل أشياء أخرى.
لقد تقاتل الفلسطينيون في شوارع غزة وأزقتها ومبانيها، وبعد أن قتلوا من أبنائهم 150 فلسطينياً، وجُرح منهم المئات واستباحوا المال العام، وخربوا ممتلكات الدولة، خرجوا على وسائل الإعلام ليكملوا معركتهم الخاسرة باتهام بعضهم بعضاً بأبشع التهم ويتلفظون بأسوأ الألفاظ.. فعلوا ذلك معتقدين بأن العالم لا يدرك ما يحدث وما حدث ومن هم طرفا القتال... ونسوا أو تناسوا أن الرأي العام العربي والعالمي، صار يعرف كل شيء، ولو أنهم صمتوا بعد أن قتلوا بعضهم بعضا، لكان أفضل وأشرف لهم ولقضيتهم.
لن يفيد الفلسطينيين تبادل الاتهامات، ولن يتأثر العالم اليوم بهجوم أي طرف على الآخر، ولن تتعاطف الشعوب العربية والإسلامية مع أي طرف ضد الآخر، وبالتالي يفترض أن يكثف الفلسطينيون جهودهم في المرحلة المقبلة لإزالة العقد والمشاكل الناشئة بينهم حتى لا يجدوا أنفسهم في يوم من الأيام وحيدين يقاومون المحتل بلا مؤيد وبلا صديق، ويجب أن يبدؤوا حوارا صادقا من أجل إذابة جبال الجليد، التي بينهم، وإلا فإنهم سيكونون لقمة سهلة للعدو الإسرائيلي.
مجموعات وأفراد "فتح" يجب أن تستوعب أن مرحلة "التكسب" من القضية الفلسطينية قد ولت، وأن استغلال القضية لتحقيق مصالح شخصية، لم يعد مقبولاً كما كان في السابق، وأن الفساد لم يعد مسموحاً به، وأن الخضوع لقوانين الدولة صار أمراً لا جدال فيه... أما "حماس" المتمسحة بالإسلام، فيجب أن تدرك بالعربي الفصيح أن "المجتمع الدولي والعرب" لن يسمحوا لها بأن تبقى في السلطة لذا يجب أن تبحث لنفسها عن دور مختلف يتناسب والمرحلة المقبلة من القضية، وألا تتسبب في خسائر إضافية للقضية وفي تأجيل الحلول الممكنة.
في اللقاء الذي أجراه إسماعيل هنية رئيس حكومة الوحدة الوطنية المقال- والمنتخب سابقاً- في غزة يوم الاثنين الماضي تكلم عن كل شيء وادعى أنه لم يخف أي شيء أمام العالم! وصحيح أنه كشف ما فعلته عناصر "فتح"، ولكن الصدق والموضوعية كانا يتطلبان منه أن يعترف أمام العالم بما فعلته عناصر "حماس" أيضاً وأن يعتذر عما بدر منها، لا أن يتجاهل كل ذلك ليوحي لنفسه وللعالم بأن حركته نزيهة نظيفة وشريفة، وأن الآخرين فقط هم الشياطين المخربون والفاسدون!
أمام هنية اليوم خيار واحد لا ثاني له، وهو ترك الحكومة وعدم التشبث بها أكثر.. وهذا الأمر الذي تأخر كثيراً، كان يجب أن يتم بعد عدة أشهر من استلامه رئاسة الوزراء، وبعد أن تبين له أن فوز "حماس"، لم يكن مرحباً به- على المستوى الرسمي- لا عالمياً ولا عربياً ولا حتى فلسطينيا، الأمر الذي أدى إلى دخول الفلسطينيين فصول الحصار والتجويع... واليوم أصبح هنية مطالبا بترك المنصب– كما ادعى في مؤتمره الصحفي- أنه مستعد لترك المنصب لو طلب منه ذلك، ولا اعتقد أنه ينتظر رسالة رسمية من أبومازن أو من الشعب الفلسطيني تطالبه بذلك، فكل التطورات الأخيرة والمتوقعة خلال الأسابيع المقبلة تدعو إلى أن يحقن الدماء ويتخذ قرار الأبطال، وخصوصاً أنه ادعى أنه ليس من "طلاب كراس "، وإنما يريد خدمة الشعب، وبالتالي عليه ترك الكرسي.
أما الرئيس الفلسطيني المنتخب محمود عباس "أبومازن"، فمن المنتظر منه أن يتخذ خطوات للتغيير أولها، أن يتعامل مع ما يحدث في فلسطين من منطلق أنه رئيس للسلطة الفلسطينية، وأنه قائد للشعب الفلسطيني بمختلف توجهاته وأفكاره وأديانه وأيديولوجياته، وألا يستمر في العمل كرئيس "فتحاوي" منهم وإليهم فقط. من المهم أن يشعر الفلسطينيون أن رئيسهم لا يخضع لضغط مجموعة ما وإنما يخضع لضغط مصلحة الشعب ومستقبل القضية الفلسطينية. وأبومازن بصفته رئيساً للشعب الفلسطيني يجب أن يكون أكثر حزماً إذا كان يريد أن يكون رئيساً يذكره التاريخ ويذكره أبناء شعبه. وحزمه يجب أن يكون موجهاً لجميع الفصائل وأولها "فتح".
إن أية دولة حقيقية لا تقوم على مجموعة ميليشيات وجماعات مسلحة، وإنما تقوم على القانون واحترامه، وعلى السلطات التي يلتزم بها الجميع، ويخضع لها الكل من دون استثناء مهما كان موقعه وتاريخه النضالي... أما المكتسبات التي حصل عليها بعضهم في مرحلة ما قبل السلطة وقبل الدولة، والتي تؤدي بأولئك إلى الخوف من قيام الدولة التي قد تحرمهم من تلك المكاسب والسلطات، فيجب أن يوضع لها حد كي تقوم الدولة.
الاعتذار مطلوب من جميع الأطراف، ففضائح "فتح" و"حماس" التي لم يكن يعرفها إلا السياسيون والمقربون من تفاصيل الأحداث اليومية، أصبحت اليوم أمام العالم، ولم يعد يفيد أي طرف أن يختلق قصصاً وأفلاماً وتمثيليات مكشوفة، كي يتهم فيها الآخر ويصوره على أنه الشرير الأوحد، فهناك فاسد إلى حد القذارة وهناك متطرف إلى حد الإرهاب، وهناك انقلابيون، وهناك انفلاتيون، وكلاهما لم ينظر إلا إلى مصلحته الضيقة. وبعد الاعتذار، فليس هناك بديل من الحوار للطرفين والجلوس من جديد– وهذا ما أكدته قمة شرم الشيخ الرباعية أول أمس- ولابد من فتح صفحة جديدة جداً لا علاقة لها بالماضي، بل فتح كتاب جديد، فالفصل الأخير من الكتاب الماضي كانت صفحاته سوداء ملطخة بالدماء والأخطاء، والفلسطينيون بحاجة إلى موقف حقيقي وحوار صادق ينسون فيه ما اقترفوه من إساءة في حق أنفسهم وفي حق شعبهم وقضيتهم. والحوار يجب أن يشارك فيه الجميع. ومخطئ من يعتقد أن الأمور تسير في فلسطين بمجموعة دون أخرى– وإن كنا نختلف حتى النخاع مع المجموعة الأخرى- فلا مجال لتجاهلها لأن تجاهل أي طرف، يعني تعقيد الأمور من جديد وعودة الأمور للدوران في حلقة مفرغة.
ما حدث في العام 2007 كان درساً كبيرا يجب أن لا يمر دون أن يتعلم منه الفلسطينيون الكثير، ويبدؤوا مرحلة جديدة من تاريخ نضالهم من أجل تحرير أراضيهم واستعادة حقوقهم المسلوبة من عقود... ويجب أن يدركوا أن أحداً لن يفيد القضية الفلسطينية إلا الفلسطيني.