الصراع السياسي والنقد الذاتي
لا نبالغ لو قررنا أن غياب النقد الذاتي أحد أسباب تأجج الصراعات سواء أكان ذلك بين الدولة وبعض الحركات السياسية، أو بين حركات سياسية متصادمة. ويؤكد هذه الحقيقة الصراع الدامي الذي دار مؤخراً بين حركة "حماس" وحركة "فتح".
وقد سبق لنا أن عالجنا بالتفصيل قضية النقد الذاتي وخصوصاً في كتابنا "الشخصية العربية بين مفهوم الذات وصورة الآخر" (القاهرة، طبعة رابعة 2007)، وكتابنا الأحدث "المعلوماتية والحوار الحضاري" (القاهرة، 2003). ومن بين المقولات الأساسية التي صُغناها أن النقد الذاتي فضيلة غربية وليس ممارسة عربية!
وكنا بذلك نشير إلى أن النقد الذاتي يعد أحد أسباب التقدم الغربي. وقد أقرت الثقافة الغربية ألواناً متعددة من النقد الذاتي، فالأحزاب السياسية تمارس النقد الذاتي أحياناً وذلك حين يحس قادة حزب ما بأنهم أخطأوا في ممارستهم السياسية أخطاءً جسيمة فيعتذرون لجماهير حزبهم. وأحياناً يعتذر الزعماء السياسيون عن تقصيرهم فيمارسون النقد الذاتي علناً، كما فعل ليونيل جوسبان زعيم الحزب الاشتراكي الفرنسي، حين فشل فشلاً ذريعاً في انتخابات رئاسة الجمهورية الفرنسية أمام جاك شيراك، ولم يكتفِ بذلك ولكنه استقال من رئاسة الحزب، وأعلن اعتزاله للسياسة!
وقد مارس النقد الذاتي مثقفون ومفكرون بارزون. ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما مارسه من نقد ذاتي عدد من أكبر المثقفين الفرنسيين، لأنه سبق لهم أن أيدوا الاتحاد السوفييتي ثم تبيَّن لهم أنه قوة إمبريالية، وأنه صبغ نفسه باللون الاشتراكي، وذلك بعد الغزو السوفييتي للمجر عام 1956، وعديدٌ منهم استقالوا من الحزب الشيوعي احتجاجاً على ما حدث.
وحين انهار الاتحاد السوفييتي عام 1989 تبعت ذلك موجات من النقد الذاتي مارسها مثقفون ماركسيون متعددون في بلاد غربية شتى، من بينها الولايات المتحدة الأميركية. ومن أبرز ممارسات النقد الذاتي الأميركية الكتاب الذي أصدره عالم الاجتماع الأميركي "آرنسون" وعنوانه "ما بعد الماركسية"، حيث حكى فيه قصة تبنيه للماركسية كإيديولوجيا تقدمية، ثم نقد نفسه لأنه -مع زملائه من الماركسيين- فشل في تقديم مشروع راديكالي لتغيير العالم، لأن المشروع الشيوعي كان فاشلاً منذ البداية، لأنه قام على قمع الحريات، ومحو الإرادة الفردية.
وإذا كنا قررنا من قبل أن النقد الذاتي أحد أسباب التقدم الغربي فذلك لسبب بسيط مفاده أنه يكشف الأخطاء ويشخِّص السلبيات، وهذه خطوات ضرورية لأي إصلاح سياسي أو اقتصادي أو ثقافي.
وفي هذا الصدد يقرر المفكر الفرنسي الشهير "جان بول سارتر" في كتابه "نقد العقل الجدلي" أنه لا يكفي الاعتراف بالأخطاء، ولكن ينبغي إعطاؤها التكييف الصحيح، أو بمعنى أصح تسمية المسمسات بأسمائها الحقيقية، وعدم المراوغة في الاعتراف بالحقيقة كما فعلنا ذات مرة حين أطلقنا على هزيمة يونيو 1967 صفة "النكسة"، ولم نصفها بالوصف الصحيح.
وأياً ما كان الأمر، فإنه يمكن القول إن ممارسة النقد الذاتي العربي بدأت بداية متواضعة عقب الهزيمة العربية في حرب عام 1948، التي انهارت فيها الجيوش العربية أمام إسرائيل.
عقب تلك الهزيمة أصدر المفكر اللبناني المعروف "قسطنطين زريق" كتاباً بعنوان "معنى النكبة"، تحدث فيه عن افتقار العرب للتفكير العلمي، وغياب الديمقراطية، باعتبارهما من أسباب الهزيمة العربية.
غير أن البداية الحقيقية للنقد الذاتي العربي حدثت بعد الهزيمة العربية الساحقة في حرب يونيو 1967. هذه الهزيمة أدت إلى زلزال في الوعي العربي من المحيط إلى الخليج، نظراً لأن المشروع القومي كان في ذروة تألقه، والآمال كانت كبيرة فيما يتعلق بمواجهة فعالة مع إسرائيل، ولا نقول بالضرورة انتصاراً ساحقاً. غير أن انهيار الجيوش العربية كان فادحاً، كما أن احتلال إسرائيل لأراضٍ شاسعة في الضفة الغربية وسيناء كان كارثة حقيقية. وقد شهدت الفترة اللاحقة للهزيمة الموجة الثانية من موجات النقد الذاتي العربي. وتصدى لها أساساً الفيلسوف السوري صادق جلال العظم بكتابه الشهير "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، وكذلك من منظور إسلامي عبدالله المُنجد في كتابه "أعمدة النكبة السبعة"، ومن منظور مسيحي أديب نصور في كتابه "النكسة والخطأ".
وقد دارت الانتقادات حول العيوب الجسيمة في التنشئة الاجتماعية للمواطن العربي، والافتقار إلى الديمقراطية، وغيابها. وقد فصلنا الحديث في هذه الانتقادات في كتابنا "الشخصية العربية" الذي أشرنا إليه من قبل.
أما الموجة الثالثة من النقد الذاتي العربي فقد جاءت -ويا للعجب- عقب فترة من الانتصار العربي المُبهر في حرب أكتوبر 1973، حين تبين بجلاء أن نموذج هذه الحرب وخصوصاً التخطيط المُحكم والتدريب رفيع المستوى، والأداء العالي، والروح المعنوية التي أدت إلى تحدى المستحيل وعبور خط "بارليف" المنيع، كل هذه الأمور عجزنا كعرب عن تحقيقها في مجالات التنمية المختلفة، ومن هنا ظل التخلف جاثماً على صدورنا، على رغم جزر التقدم هنا وهناك.
ومن أبرز أدبيات الموجة الثالثة للنقد الذاتي العربي ندوة "أزمة التطور الحضاري في العالم العربي" التي نظمتها جمعية الخريجين الكويتية عام 1973 في الكويت، وشارك فيها أبرز المفكرين العرب من المشرق والمغرب.
يحتاج الشعب العربي من المحيط إلى الخليج أن تمارس حركة "حماس" نقداً ذاتياً صريحاً للحرب الهمجية التي شنتها على مباني ومؤسسات وكوادر السلطة الفلسطينية ومنظمة "فتح" في غزة. وحركة "حماس" مدينة باعتذار رسمي للشعب العربي، لأن ما دار في حربها غير المُقدسة وما تضمنته من جرائم دموية، وأبرزها أحكام الإعدام الفورية التي نفذتها بدون تحقيق أو محاكمة لعدد من كوادر "فتح" وذلك في الشارع وأمام أسرهم، تتحدى بشاعته الجرائم الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني. ومن المؤسف حقاً أن يزج بالإسلام في هذه الحرب فترتفع الشعارات الإسلامية عن ضرورة إبادة "الفئة الباغية" استناداً إلى بعض آيات القرآن الكريم من خلال عملية تأويل مُنحرفة للنصوص الدينية.
ولأننا تعودنا أن نمارس النقد الاجتماعي المسؤول الذي لا ينحاز لطرف دون طرف، فإننا نؤكد أن منظمة "فتح" هي أيضاً مطالبة بممارسة النقد الذاتي لممارستها السياسية الخاطئة في المرحلة الماضية، وخصوصاً انغماس بعض قادتها في الفساد وممارسة القمع ضد خصومها.
النقد الذاتي الذي نطالب به كلاً من "حماس" و"فتح" هو المقدمة الضرورية لحوار سياسي مسؤول بين قادة الحركتين ،يتم تحت إشراف الجامعة العربية، بغرض جمع صفوف الشعب الفلسطيني المشتتة في مواجهة إسرائيل. وذلك لسبب مهم مؤداه أن الشعب العربي لا يمكن أن يقبل بحرب فلسطينية- فلسطينية تقضى نهائياً على أمل الشعب الفلسطيني الجريح في إقامة دولته المستقلة في ضوء حقوق الشرعية الثابتة. وهكذا يقف الفلسطينيون اليوم بكافة فصائلهم أمام محكمة التاريخ.