ترتيب "الكيفيات"... في مواجهة الانكشاف الرقمي
منذ ثلاث سنوات ذهبت إلى مطار بوسطن كي ألحق بالطائرة التي كانت ستقلني في واحدة من سفراتي الخارجية. وبينما كنت في انتظار الصعود للطائرة بعد أن أنهيت إجراءاتي، فكرت في الذهاب إلى مكتبة لأشترى بعض المجلات كي أقرأها أثناء رحلتي. وبعد أن اخترت المجلات، ووقفت في طابور الدفع جاءت سيدة من الاتجاه المقابل وقفت ورائي مباشرة- أو هكذا ظننت. وعندما أخرجت النقود من حافظتي لدفع قيمة المجلات، إذا بتلك السيدة تقول لي:عفوا... ولكني جئت قبلك إلى هنا، وبالتالي فإني يجب أن أدفع أولاً. وبعد أن قالت لي ذلك، رمقتني بنظرة نافذة وكأنها تقول لي: أنا أعرف من تكون. واضطررت أن أقول لها:
"عفواً... يا سيدتي، ولكني جئت قبلك إلى هنا بدليل أنني أقف أمامك كما ترين".
لو كان شيئاً مثل هذا قد حدث لي اليوم، لكان لي رد فعل مختلف عن ذلك. كنت سأقول لتلك السيدة:"سيدتي... إنني في غاية الأسف فأناأعرف أنني مخطئ تماماً. تفضلي وقفي أمامي. بل ويمكنك أن توفري على نفسك العناء وتدعيني أدفع لك ثمن مجلتك. ما رأيك في أن أشتري لك وجبة غدائك، وألمّعْ لك حذاءك أيضاً؟
ولكن ما الذي يجعل ردي الآن على هذا النحو؟ لأنني أخشى أن يكون لدى تلك السيدة كاميرا هاتفية، أو مدونة على شبكة الإنترنت، مما يمكنها بالتالي أن تخبر العالم كله عن التقائها بي وماذا حدث بيننا- من وجهة نظرها بالطبع- وكيف أنني كنت فظاً وجلفاً، ومغروراً وفضولياً. نعم كان يمكنها أن تقول كل ذلك وأكثر.
فعندما يكون لدى كل شخص مدونة، أو صفحة على موقع "ماي سبيس" أو حساب على موقع"فيس بوك"، فإن ذلك يعني بمقدوره أن يصبح ناشراً. وعندما يمتلك كل شخص هاتفاً محمولاً مزوداً بكاميرا فبمقدوره أن يصبح "باباراتزي"، أو صائد مشاهير. وعندما يتمكن كل شخص من تحميل فيلم على موقع"ماي تيوب"، فبإمكانه أن يصبح مخرجاً سينمائياً أو تليفزيونياً. وعندما يصبح الجميع ناشرين، أو مصورين صائدين للمشاهير، أو مخرجين سينمائيين أو تلفزيونيين، فإن أي شخص يقابلونه سيصبح بالتالي شخصية عامة.
وتداعيات كل ذلك هي موضوع كتاب جديد من تأليف "دوف سيدمان"، مؤسس ومدير عام شركة"إل.آر.إن" وهي شركة لأخلاقيات الأعمال. اختار "سيدمان" لكتابه عنواناً مكوناً من كلمة واحدة هي" كيف". والأطروحة البسيطة التي يطرحها في كتابه هي: في هذا العالم الشفاف الذي نحيا فيه فإن "الكيفية" التي نحيا بها، و"الكيفية" التي ننفذ بها أعمالنا، قد أصبحت أهم الآن مما كانت عليه من قبل، وهو ما يرجع إلى أنه قد أصبح بمقدور عدد كبير من الناس في الوقت الراهن أن يتلصصوا على ما نفعل، وأن يخبروا عددا آخر كبيرا من الناس عما يرونه. ويقول "سيدمان" أيضاً إن أي أحد يريد أن يكسب في عالم اليوم عليه، أن يحول هذه الأحوال المستجدة إلى مصلحته ويوظفها لفائدته. أما بالنسبة لجيل الشباب من الجنسين، فإن "سيدمان" يقول إن شهرته في الحياة ستتحدد في عمر أصغر بكثير من عمر الأجيال التي كانت تسبقه.
لماذا؟ لأن نسبة متزايدة مما يقوله أو يفعله أو يكتبه أي واحد من هذا الجيل في الوقت الراهن، سوف تتحول إلى بصمة رقمية غير قابلة للمحو أبداً. لقد كان جيلنا قادراً على ارتكاب الأخطاء وعلى عدم تسجيلها في ملخص سيرته الذاتية كان يقدمه أفراده عندما يتقدمون لشغل الوظائف. أما جيل اليوم فإن الكثير مما يقوله أو يكتبه يتم حفظه على الخط للأبد، وهو ما مكّن أصحاب الأعمال من معرفة الكثير عنهم حتى قبل أن يقرؤوا ملخص سيرهم الذاتية وذلك من خلال كتابة أسمائهم في محرك البحث"جوجل".
ومعنى ذلك أن الطريقة الوحيدة المتاحة، لأي واحد منا كي يتقدم في حياته هو أن يرتب"كيفياته" على نحو سليم.
ينطبق هذا على الأفراد كما ينطبق على مجال الأعمال أيضاً. فالشركات التي ترتب أولوياتها على نحو"خاطئ" لن تكون قادرة على إخفاء ذلك من خلال الاستعانة بشركة علاقات عامة لتبييض صورتها أو من خلال دعوة اثنين من المراسلين الصحفيين لتناول وجبة غداء، كي يكتبوا أن كل شيء في تلك الشركة على ما يرام، لأنها تعرف أن ذلك الصحفي لو كتب شيئاً عنها، فإن ما يكتبه سيتم تسجيله وتتم قراءته عالمياً.
ولكن ذلك يخلق فرصا للغير أيضاً. لماذا؟ لأن كل ما نفعله"سيتم نسخه بسرعة وبيعه بواسطة كل من يريد ذلك.
على أن"الكيفية" التي نتعامل بها مع زبائننا إذا ما كنا نمتلك مشروعاً، والكيفية التي نتعاون بها مع شركائنا، و"الكيفية" التي نلتزم بها بما قطعناه على أنفسنا من التزامات ليست قابلة للنسخ بسهولة.. وهنا تحديداً يكمن المجال الذي يمكن لكل شركة أن تتميز فيه عن الأخرى.
إذن، اختيار "الكيفيات"، وترتيبها على النحو الصائب هو ما يهم. أو كما يقول"سيدمان":نحن لا نعيش في بيوت زجاجية(البيوت لها جدران) وإنما نعيش على شرائح ميكروسكوبية مرئية ومكشوفة أمام الجميع". معنى ذلك أنه سواء كان المرء يبيع سيارة، أو يبيع جريدة، فإنه يجب عليه أن يرتب أولوياته على النحو الصحيح، وأن يعرف كيف يمكن له أن يبني الثقة (ثقة الآخرين به)، وكيف يمكن له أن يتعاون، وكيف يقود الآخرين، وكيف يعتذر إذا ما دعت الضرورة لذلك، لأن هناك أعداداً متزايدة من الناس ستعرف عن ذلك إذا ما فعله- وإذا لم يفعله أيضاً.
توماس فريدمان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب ومحلل سياسي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"