الاقتصاد العولمي... حكايات واقعية في هذا الكتاب الموسوم:" الاتصال على مدى 24 ساعة مع الاقتصاد العولمي"، يقدم لنا "دانيال التمان" الخبير الاقتصادي الحاصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة هارفارد إطلالة على الاقتصاد المعولم، من خلال وجهات نظر رجال الأعمال، ومديري الشركات الكبرى، والعاملين في المصانع والمواطنين العاديين، ومن خلال نماذج عملية، وحكايات واقعية. ويضمّن المؤلف كتابه عدداً من المقالات التي تساعد القارئ العادي على فهم الكثير من المفاهيم المجردة التي يقرأ عنها ويسمعها دون أن يدرك كنهها. وهو يفعل ذلك من خلال استخدام تلك المفاهيم في سياقاتها لمساعدة القارئ على إدراك معناها. ويتميز أسلوب المؤلف بنبرة محايدة، حيث يحرص على ألا تكون آراؤه منحازة لنظرية اقتصادية دون غيرها كما يحرص أيضاً على عدم إغراق القارئ في تفاصيل معقدة كما تفعل عادة العديد من الكتب التي تتناول ظواهر الاقتصاد العالمي الجديدة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ظاهرة القوة الاقتصادية المتنامية للطبقة الوسطى الصينية، التي نجحت خلافاً لكل التنظيرات الرأسمالية في إقامة اقتصاد مزدهر، في ظل نظام سلطوي مركزي.. ومنها أيضاً محنة المزارعين في بوليفيا الذين عانوا الكثير من الويلات على أيدي الإقطاعيين المتحالفين مع الاحتكارات العالمية. ويقول المؤلف إن هدفه من الكتاب كان هو "تجميد" الاقتصاد العولمي لفترة تكفي كي يلقي عليه نظرة فاحصة، وهو ما يشير ضمنا إلى أن ذلك الاقتصاد يسير بخطى حثيثة تجعله عصيا على المتابعة في الكثير من الأحيان. وقد اعتمد الكاتب طريقة فريدة في ترتيب فصول الكتاب حيث كان ينتقي عناوين الفصول من العناوين الرئيسية في الصحف والمجلات المتخصصة في الشؤون الاقتصادية، ثم يقوم بترتيبها زمنيا، ثم يعمل بعد ذلك على معالجتها واحدا تلو الآخر. وعناوين هذه الفصول التي صاغها المؤلف على هيئة أسئلة هي: متى ينجح أسلوب العمل الجماعي؟ هل تستطيع الحكومات أن تجعل الاقتصاد العولمي أكثر تنافسية؟ هل الشركات المتعددة الجنسيات تساعد الدول الصغرى على تحقيق التقدم أم تجلب لها المشكلات؟ ما الذي يحدد نظام العمل للاقتصاد العولمي؟ من الذي يتحكم في التدفقات المالية في العالم؟ كم تبلغ أكلاف الفساد بالنسبة للاقتصاد العولمي؟ ما مدى أهمية الأسواق المالية للنمو الاقتصادي؟ لمن يجب أن نعطى الأولوية: للاستقرار السياسي أم الاستقرار الاقتصادي؟ هل يمكن للولايات المتحدة أن تضع قواعد وأنظمة الاقتصاد العولمي؟ هل الهجرة ضرورة أم رفاهية؟ ما أهمية الملكية الفكرية للاقتصاد؟ هل يمكن للدول الفقيرة أن تصبح غنية خلال فترة قصيرة؟ هل تؤدي الصدمات المالية إلى مساعدة الاقتصاد على المدى الطويل؟ من خلال الإجابات التي يقدمها المؤلف عن تلك الأسئلة، ينجح في تزويد القراء بفكرة عامة عن الاقتصاد العولمي، وعن الآليات التي يعمل من خلالها، وعن الترابط بين هذه الآليات، على نحو يمكن هؤلاء القراء في النهاية من تكوين رؤيتهم الخاصة، وعدم النظر إلى الاقتصاد العولمي بشكل صحي ومن خلال منظور الأبيض والأسود فقط وكأنه لا توجد أي تدرجات لونية بينهما، أو منظور الجيد والسيئ وكأن الشيء الجيد ليست فيه جوانب سلبية أو كأن الشيء السيئ لا يحتوي على بعض الجوانب الإيجابية. وفي الحقيقة أن المؤلف نجح في تحويل كل إجابة من الإجابات عن تلك الأسئلة المبينة أعلاه إلى فصل شامل وقائم بذاته. ولكن تلك الفصول تتكامل فيما بينها لتعطي صورة شاملة عن الموضوع برمته. ولقد كان المؤلف حريصا على التخفيف من جمود الموضوع بتضمين الصفحات الواقعة بين الفصول رسائل إليكترونية مرسلة إليه من قراء وردوده هو عليها مما يحقق نوعا من الربط بين موضوعات تلك الفصول وبين الواقع العملي، خصوصاً وأن معظم تلك الرسائل واردة من قراء يعملون في مجالات ذات صلة بموضوع الكتاب. فمنهم على سبيل المثال خبراء في "وول ستريت" أو محللون في مجالات اقتصادية، ومنهم مديرون لشركات تجارية وصناعية صينية (خصوصا في الفصل الذي تناول فيه المؤلف الصعود الاقتصادي المذهل للصين). ولقد كانت هذه فكرة جيدة من المؤلف في الحقيقة لأنها ساعدت القارئ على التغلب على الشعور بالملل، الذي ينتاب بعض القراء عادة عند قراءتهم لكتاب يتناول موضوعا جافا، وإن كان قد لوحظ أن الكثيرين ممن كتبوا تلك الرسائل لا يتمتعون بمواهب كتابية، وهو ما قد يعطى انطباعا سلبيا يطال جدية المؤلف ومصداقيته. وربما يعيب البعض على المؤلف أيضا أنه كان طموحا أكثر مما يجب، وأنه قد تناول كماً من الموضوعات يفوق ما يمكن لمؤلف واحد أن يعالجه بين دفتي كتاب واحد. ولكن هذا القول مردود عليه بأن المؤلف لم يحاول أن يعالج الموضوعات معالجة تفصيلية، وإنما حاول أن يعطينا لمحات قد تزودنا بصورة عامة عن الاقتصاد العولمي، بكل تطوراته وصيرواته وتغيراته وتعقيداته. ومما يعيب الكتاب أيضا أن مؤلفه وهو خبير الاقتصاد المرموق لم ير غضاضة في أن يكون عدد كبير من الآراء الواردة في على لسان مديرين تنفيذيين في الشركات الكبرى الذين يركزون -كما هو معروف- جل اهتمامهم على تصريف المسائل اليومية في العمل، ولا يتمتعون بتلك الرؤية الشاملة التي كان يمكن أن تجعل آراءهم ذات قيمة في سياق هذا الكاتب. وهكذا فإننا نرى أحدهم يتحدث في رسالته الإليكترونية عما فعله عندما زار براغ، وكيف أنه قد تجول في السوق لساعات بحثا عن هدية يقدمها لزوجته!. ونرى آخر يتحدث عن الوقت الذي يقضيه في الانتظار في المطارات في أثناء جولاته المتعددة التي يقوم بها في نطاق وظيفته، وهو ما يدفعنا إلى القول بأن القارئ العادي ليس هو فقط الذي يحتاج إلى قراءة هذا الكتاب لرفع الغشاوة عن عينيه بشأن الاقتصاد العولمي، بل إن مديري الشركات العولمية أيضاً بحاجة إلى ذلك على الأقل حتى يكونوا قادرين على رؤية الأفق الاقتصادي العولمي بشموليته واتساعه. سعيد كامل المؤلف: دانيال التمان الناشر: فرار، شتراوس آند جيرو تاريخ النشر: 2007