صرخاتهم تلاشت أدراج الرياح وصوتهم غاب تحت حقيقة الإصرار· كلهم تقريباً إلا نفر قليل، وقف ضد فكرة إنشاء ميناء جبل علي، ولكن المغفور له صاحب السمو الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم وبثاقب حكمة كان يرى في دبي حلماً مختلفاً ومستقبلاً آخر لإنسان المستقبل· وقبل سموه في حينها دخول التحدي في مغامرة محسوبة أثبتت الأيام أن ملاحها المغامر كان على حق والراجفين الراجزين المرعوبين من التغيير أسقط في أيديهم وهم يشاهدون دبي تنتقل بخطوات واثقة نحو المستقبل باقتدار· تواردت هذه الخواطر أمامي وأنا أتابع حديث الفريق أول سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ولي عهد دبي وزير الدفاع لرجال الإعلام على هامش اجتماعات البنك الدولي ومدى إيمانه بمستقبل الإمارات واعتزازه بإنسان الإمارات وخاصة جيل الشباب الذي يقود المسيرة بثبات ووعي·
الذين عرفوا سمو الشيخ محمد بن راشد عن قرب يدركون مدى الطموح والإصرار والإرادة الحديدية التي يمتلكها الرجل لتحقيق طموحات صعبة وانجاز مشروعات كانت في حكم الحلم أو المستحيل، ويدركون جيداً حبه للإمارات من الماء إلى الماء ويعرفون خصاله الشهمة في عروبته التي لا يمكن أن يجادله فيها أحد· لحديث أبي راشد أكثر من مغزى ويحمل ألف دلالة على مختلف الصعد· ففيه دروس وعبر في الاقتصاد ونظريات في التنمية وأساليب عمل في الإدارة واستنهاض الهمم· ولكن ما يهمني وأنا البعيد عن عالم الاقتصاد والمال ما جاء في حديثه من تعليق وتعقيب حول العراق وإنسان العراق ومستقبل العراق، وهذا ما سأعرج عليه استكمالاً لمجموعة المقالات التي تناولت فيها شأن العراق·
يقول سمو الشيخ محمد في عبارة جامعة مانعة ذات دلالة وأبعاد:
من واجبنا مساعدة العراقيين على إعادة الإعمار واستعادة الاستقلال والسيادة سريعاً ·
يؤمن محمد بن راشد على نهج زايد الخير إيماناً مطلقاً بالشعب العراقي ويصفه بالشعب العظيم، وأن هذا الشعب وبما يملكه من تاريخ وحضارة وعلم وإصرار قادر على تخطي الصعاب وإعادة إعمار الوطن، ليس بالإسمنت وحده، ولكن بالحب والانتماء لعراق جديد·
ويركز محمد بن راشد على بعد قومي أساسي يرتبط أساساً بمد يد العون والمساعدة للأشقاء العرب في بغداد لتجاوز المحنة والعبور فوق جسر الإحساس بالانكسار، وهو بهذه الدعوة يحمل العرب كل العرب مسؤولية إعادة الأمل للشعب العراقي في بعده القومي مدركاً أن بغداد كانت وستبقى عاصمة العلم ومنبر الحضارة وبعداً استراتيجياً لكل العرب· وفي حديث أبي راشد غيرة محمودة لكل العرب بعدم ترك الإخوة في بغداد يواجهون مصيرهم بعيداً عن إخوانهم العرب بعد ثلاثة عقود من القهر والظلم، وبعد ثلاث حروب طاحنة أتت على الأخضر واليابس من مقدرات الشعب العراقي ومن احتياطي الأجيال، ومن ثمن الدواء والكتاب المدرسي، وحذاء الرياضة وسقف البيت·
عندما يقولها محمد بن راشد فإنه يعنيها بكل صدق واقتدار، لأن محنة الشعب العراقي تحت هيمنة وجبروت الحزب الواحد أو تحت هيمنة قوات التحالف تعتبر وضعاً شاذاً وضع فيه شعب أبي لا يرضى الذل والهوان، وهو لا يستجدي أحداً ولكنها العروبة الحقة التي تستدعي أن تستنفر الدول العربية الغنية منها والفقيرة لإعادة إعمار العراق عربياً وبروح عربية حتى يشعر الإخوة في بغداد بالامتنان وأن محنتهم قد فك أسرها بأيادٍ عربية، إلى جانب مساعدات وهبات الأصدقاء·
إن عراق المستقبل وحتى يستعيد استقلاله وسيادته على حد تعبير الفريق أول سمو الشيخ محمد بن راشد يحتاج إلى وقفة عربية صادقة مع النفس والآخرين ليأخذ العراق مكانته في قلب الفعل العربي السياسي والاجتماعي والاقتصادي· وإذا كان محمد بن راشد يرى في الاقتصاد الحصان الذي سيقود العربة لإخراج العراق الشقيق من محنته فهو يرسم وبحكمة المخطط الاستراتيجي ملامح المرحلة القادمة لعراق المستقبل ويؤسس لنظام اقتصادي عربي قادر على الخروج من عنق الزجاجة لتقديم حلول أفضل في زمن تتحرك فيه الشعوب والدول لتحقيق معدلات نمو تساهم في إسعاد الشعوب وتقديم نماذج لحياة كريمة بعيدة عن مقصلة الفقر والفاقة·
وبهذا التوجه يضع محمد بن راشد الخطوة الأولى الصحيحة في طريق وعرة وصعبة لإعادة الأمل في عيون الإخوة العراقيين· أمل محمل بنبض عربي صادق وبرؤية من روح التحدي للمستحيل· ويضع أبو راشد تجربة الإمارات عامة وتجربة دبي خاصة بين أيدي كل العرب ليستفاد منها لتحقيق معدلات تنموية واستثمارية غير مسبوقة في وطن إرادة التحدي واختراق حواجز المستحيل مع إيمان مطلق بقدرات الشعب العراقي، وهو بذلك يحمل كل العرب أمانة إعادة إعمار العراق مؤكداً أن مشكلة التخلف الاقتصادي العربي تحتاج إلى الكثير من العمل والبحث عن أنجع أساليب التغيير مع التسليم بوجود تحديات محلية وإقليمية ودولية على كافة المستويات الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية· إن دعوة محمد بن راشد في بعدها الأخلاقي تتجاوز النظرة الاقتصادية الضيقة المرتبطة بتشغيل الشركات والمصانع لإنتاج ما يحتاجه العراق في عملية إعادة الإعمار، ولكن النظرة الأخلاقية