حرب أميركا... ونفط العراق!
"بغض النظر عن الأسباب التي قُدمت عن أسلحة الدمار الشامل لصدام حسين، فإن المسؤولين الأميركيين والبريطانيين كانوا قلقين من العنف في المنطقة التي تحتوي على مصدر للطاقة (النفط) لا يمكن الاستغناء عنه لاقتصاديات العالم. إنني حزين لأنه من غير الممكن سياسياً الاعتراف بما يعلمه الجميع: أن النفط كان السبب الرئيسي لحرب العراق". هذا الكلام ورد على لسان "آلان جرينسبان" -رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في ست إدارات أميركية من "الجمهوريين" و"الديمقراطيين"- في سياق حديثه عن السبب الحقيقي للحرب على العراق، وذلك في مقابلة مع صحيفة "الغارديان" البريطانية 17/9/2007.
وبالرغم من الاعتقاد السائد لدينا، سواءً كنا واقعيين أم مؤمنين بـ"نظرية المؤامرة"، تجاه الحجج التي ساقتها الإدارة الأميركية لتبرير حربها الاستباقية على العراق عام 2003، فإن النفط وحماية أمن إسرائيل ومنح الولايات المتحدة الهيمنة المُطلقة على ما تسميه "الشرق الأوسط الكبير" تبقى في مقدمة دوافع تلك الحرب. وطبعاً لم تكن ثمة أية أدلة أو براهين تدعم مثل هذا الطرح وتقنع المُشككين فيه، على قلتهم وتفرقهم، إلى أن جاء الآن "جرينسبان" الذي أعلنها صريحة مدوِّية، واضعاً النقاط على الحروف، مؤكداً أن النفط -بالذات- كان هو السبب والمبرر والمحرك الأقوى لتلك الحرب التي سُميت يومها "عملية حرية العراق"، والتي لا تزال مستمرة بدمويتها وجنونها بعد أربعة أعوام ونصف من اشتعالها، وسط تعبئة الأجواء لحرب نخشى أن تكون قد باتت هي الأخرى محتمة بين إيران والغرب.
والحقيقة أن المبررات التي قدمتها الإدارة الأميركية للحرب الاستباقية على العراق لم تكن مقنِعة، وخاصة في بُعدها الذي تم تطويره لاحقاً، بالقول إنها تشكل جبهة رئيسية في الحرب على الإرهاب، إذ أنه لم تكن هناك في العراق يومها منظمة إرهابية مثل تنظيم "القاعدة"، أو أية منظمة أخرى مما تصنفه واشنطن قبل الحرب ضمن المنظمات الإرهابية.
أما "تحالف الراغبين" في حرب العراق فلم يكن هو الآخر تحالفاً ثابتاً ومقنِعاً، وافتقر إلى غطاء الشرعية الدولية. وقد وصف "كوفي أنان" لاحقاً تلك الحرب بأنها "غير شرعية". وانفرط عقد ذلك التحالف الهش بانسحاب الدول التي شاركت فيه، والتي لم يبق منها سوى بقايا للقوات البريطانية لتلعب دور المساند الضعيف مع الأعداد القليلة من القوات الأسترالية، التي أخطأ الرئيس بوش ذات مرة، وأطلق عليها اسم: "القوات النمساوية"!
أما الادعاءات بوجود أسلحة دمار شامل عراقية، وعلاقة لنظام صدام حسين مع "القاعدة"، فقد ثبت أيضاً عدم صحتها. وهكذا لا يبقى سوى ما تفتقت عنه عقلية "المحافظين الجدد" من إمكانية تحويل العراق إلى "نموذج" في نشر الحريات ومحاربة الطغاة. وبعد كل تلك الخطابة المحمومة عن تحويل "النموذج العراقي" إلى مثال تستطيع واشنطن التلويح به لتأديب الأنظمة الموالية ودفعها لدخول بيت الطاعة الأميركي، ولترهيب "الأنظمة المارقة" التي أصبحت لاحقاً "محور الشر"، بعد كل ذلك ها هت تلك الادعاءات تمنى بالفشل أيضاً إلى درجة أن واشنطن نفسها توقفت تماماً عن ترديدها.
لقد تحطمت جميع هذه الادعاءات تباعاً على صخرة الواقع، وتحول المثال العراقي في الديمقراطية والحريات والمشاركة السياسية إلى تناحر واقتتال يمزقان العراق على خطوط مذهبية وإثنية وطائفية، وتحولت البلاد بذلك إلى "دولة فاشلة". ومع عودة واشنطن لسياستها القديمة بتفضيل الاستقرار على الحريات، ونشر الديمقراطية تقزَّمت أهدافها في العراق إلى كيفية الخلاص والانسحاب من مستنقع الموت بأقل تكلفة بشرية ومادية وسياسية ممكنة في عام انتخابات مصيري.
ويبقى أن نشير أخيراً إلى أن "آلان جرينسبان" رئيس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) نشر مؤخراً مذكراته: "عصر الاضطرابات". وتكتسب انتقاداته لسياسة بوش بعداً مهماً لمكانته ولموقعه السابق وهو المطلع على خبايا وأسرار واشنطن وطريقة صنع القرار فيها.
وقد وفرت تصريحات "جرينسبان" الأخيرة أرضية ووقوداً يوظف ويستخدم من المؤمنين بـ"نظرية المؤامرة" ومعارضي الحرب في أميركا والغرب. وبالرغم من نفي وزير الدفاع الأميركي "روبرت جيتس" صلة الحرب بالنفط، إلا أن ذلك لم يعد مقنعاً. لأن النفط كان ولا يزال هو السبب الرئيسي لتلك الحرب. ويأتي كتاب "جرينسبان" وانتقاداته لإدارة الرئيس بوش، في توقيت سيئ للإدارة المحاصرة، وسيزيد من تعميق مأزقها وتعثر مشروعها في الشرق الأوسط الكبير، ما يلغي النموذج العراقي كمثال، وكعِبرة.