الصحافة الفرنسية
الفشل "غير المسموح" في أفغانستان... ولحظة الحقيقة بين باريس ودمشق!
زيارة ساركوزي الخاطفة إلى أفغانستان، وتحديات اختفاء الحدود الداخلية الأوروبية، وشرط نجاح مؤتمر باريس لدعم فلسطين، ولحظة الحقيقة التي دقت الآن بين باريس ودمشق، موضوعات أربعة نعرض لها ضمن جولة سريعة في الصحافة الفرنسية.
زيارة ساركوزي إلى كابول: في تغطيتها للزيارة الخاطفة التي أداها الرئيس نيكولا ساركوزي يوم أمس (السبت) إلى أفغانستان أبرزت صحيفة ليبراسيون بشكل خاص تصريحه بأن "ثمة أمرين يوضعان على المحك الآن في أفغانستان، ويعدان في غاية الأهمية، أولهما: مدى صلابة العلاقات بين الحلفاء. والثاني: الحرب على الإرهاب". ورأت الصحيفة أن دلالة هذه الزيارة غير المعلنة سلفاً تأتي من حقيقة كونها تأكيداً فرنسياً على أن باريس ليست في وارد التراجع الآن عن التزاماتها تجاه أفغانستان التي أكد ساركوزي التزامه بالعمل للحيلولة دون عودتها إلى "دولة إرهاب" مثلما كان عليه الحال طيلة فترة حكم "طالبان". وكان ملفتاً على رغم تصريحات ساركوزي عدم إعلانه عن زيادة عدد القوات الفرنسية العاملة هناك والتي تقدر بـ1600 جندي، باستثناء زيادة منتظرة في عدد المدربين المعنيين بتكوين عناصر الجيش الأفغاني، وهذا ما حاول سيد الأليزيه الالتفاف عليه بالقول إن المهم في الوجود الفرنسي في أفغانستان هو "النوعية" وليس "الكم"، مؤكداً أن الجيش الفرنسي دفع "ضريبة دم" خلال السنوات الماضية وفاء بالتزاماته تجاه أفغانستان، في إشارة إلى مقتل 13 عسكرياً فرنسياً هناك منذ سنة 2001. أما في تغطية مجلة لونوفل أوبسرفاتور فقد أبرزت في سياقها تصريح ساركوزي بأن "ثمة حرباً تجري في أفغانستان، حرباً ضد الإرهاب، وضد التعصب، والخسارة أو الفشل غير مسموحين فيها"، مضيفاً مع ذلك أن المسألة الأفغانية لا يمكن أن يعتمد في تسويتها على الحلول العسكرية وحدها، بل لابد من وجود مقاربات سياسية، وأن المهم في النهاية، هو بزوغ الدولة الأفغانية الشرعية الديمقراطية الحديثة. وختمت لونوفل أوبسرفاتور بإشارة ذات معنى إلى الرسالة التي يوجهها ساركوزي من خلال هذه الزيارة في تجاه واشنطن، التي التزم لها في زيارته الأخيرة إلى البيت الأبيض بأن يمضي معها في الملف الأفغاني دون تردد، وحتى النهاية.
تحديات فضاء "شنغن": صحيفة لوموند خصصت افتتاحية لاحتفال أوروبا هذا الأسبوع بنفاذ فضاء شنغن ليشمل دول أوروبا الشرقية والوسطى، بحيث اختفت الحدود بينها وبين دول الاتحاد القديمة، وبحيث أصبح التنقل بين جميع هذه الدول يتم بالبطاقة الشخصية فقط. وقد اعتبرت الصحيفة أن هذه الخطوة تستحق الاحتفال، وذلك لما تحمله من رمزية عالية على التوحيد الحقيقي للقارة العجوز. ولكن هذا الإنجاز ليس من غير ثمن، ويخلق العديد من التحديات، وفي مقدمتها احتمال استغلال شبكات الجريمة والهجرة السرية لهذه الحدود المفتوحة في طول القارة وعرضها لتسهيل عمليات التهريب والجريمة المنظمة، وخاصة عن طريق حدود الدول الأوروبية الشرقية المشمولة الآن لأول مرة باتفاق شنغن. ولأن كل هذه المخاوف مفهومة وواردة، فإن المطلوب الآن أوروبياً هو التعامل بذكاء ودقة مع معادلة السيطرة بإحكام على الحدود الخارجية، ومحو الحدود الداخلية في الوقت نفسه. ولكن المشكلة تكمن في انعدام الإرادة السياسية، حتى لو توافرت القدرات الفنية لمراقبة الحدود الخارجية الأوروبية، وخاصة أن الكثير من قوى اليمين الشوفينية القومية في الدول الأوروبية لن تدع مثل هذا الإنجاز التوحيدي الأوروبي يمضي دون منغِّصات، خاصة إذا ترتبت عليه اهتزازات في سوق العمل بفعل التدفق العمالي من أوروبا الشرقية. وفي افتتاحية باتريس شابانيه في "لوجرنال دو لاهوتمارن" نجد طرحاً قريباً من هذا، مع الإشارة إلى أن أكثر الوحدويين الأوروبيين حلماً وتفاؤلاً لم يكونوا ليتصوروا قبل 20 سنة فقط إمكانية السفر بالبطاقة الشخصية من البرتغال إلى الحدود الروسية، ومع ذلك ها هو جدار برلين الأوروبي الأكبر يتهاوى، وها هي الوحدة الأوروبية تتحقق على أرض الواقع بالمعنى الفعلي لا الشعاري أو اللفظي النظري المفارق للواقع.
مؤتمر باريس لدعم فلسطين: مؤتمر المانحين لفلسطين الذي التأم هذا الأسبوع في العاصمة الفرنسية كان موضوع العديد من افتتاحيات الصحف الفرنسية. في افتتاحية للوموند اعتبرت أن انعقاد هذا اللقاء جاء مؤشراً على أن آليات مؤتمر أنابوليس بدأت تؤتي أكلها، ولكن وعود الدعم الاقتصادي السخية التي حصل عليها الفلسطينيون في باريس، والتي فاقت طلباتهم بملياري دولار، لا تكفي مع ذلك لوحدها لإنهاض الاقتصاد الفلسطيني من عثرته. فمع أن الشعب الفلسطيني هو أكثر شعب في العالم تلقياً للمساعدات (بالنسبة للفرد) فإن إغداق الأموال لابد أن يصحبه رفع للعراقيل والحواجز الكثيرة التي تفرضها إسرائيل والتي تشل الاقتصاد الفلسطيني وتجعل هوامش التحرك أمامه معدومة. تماماً كما أن إصلاح المؤسسات الفلسطينية نفسها يعد شرطاً آخر للتأكد من أن الناس المعنيين بالمساعدات سينالون نصيبهم العادل منها. وترى لوموند أن مؤتمر باريس السخي يعد بمثابة فرصة أخيرة أمام الرئيس محمود عباس لاجتراح الظروف المناسبة لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. وفي افتتاحية "لاكروا" ذهب دومينيك كينو إلى أن الدول المانحة فهمت أخيراً حقيقة لفَّت ودارت طويلاً قبل الاعتراف بها وهي أن الفقر والبؤس هما وحدهما ما قوى شعبية الحركات المتشددة كـ"حماس" في صفوف الفلسطينيين، ومن ثم فهِم الجميع أن تقوية موقف السلطة الفلسطينية تمر حتماً عبر دعمها اقتصادياً. وتبقى الكرة الآن في المرمى الإسرائيلي وذلك بلجم القوى الاستيطانية المتطرفة من جهة، وبتسهيل مهمة محمود عباس وحكومة فياض في الاستفادة من الدعم الذي ضخه الممولون في الاقتصاد الفلسطيني. وهنا التحدي الحقيقي، بأن تتجاوز إسرائيل ممارساتها المعرقلة لمهمة الشريك الفلسطيني في عملية السلام.
فرنسا- سوريا... ولحظة الحقيقة: تحت هذا العنوان نشرت صحيفة لوموند مقالاً تحليلياً تناول دلالة تغير الخطابة الفرنسية تجاه دمشق، وخاصة إنذار ساركوزي بأنه إذا لم تسهل سوريا انتخاب رئيس لبناني في حد أقصاه يوم أمس (السبت) فإن العلاقات الفرنسية- السورية ستتردى بشكل غير مسبوق. ويرى كاتبا التحليل –وهما من "مجموعة الأزمات الدولية"- أن دمشق تمكنت على رغم كل التجاذبات من الإبقاء حتى الآن على خيوط اتصال نشطة حول الملف اللبناني مع باريس وواشنطن والعواصم العربية، تمثلت ذروتها في لقاء وزيرة الخارجية رايس بنظيرها السوري، وبالمشاركة السورية في أنابوليس، وأيضاً في الزيارة المفاجئة التي أداها إلى دمشق العاهل الأردني عبدالله الثاني يوم 18 من نوفمبر الماضي. ولعل ما ميز أداء ساركوزي أكثر من غيره تجاه دمشق، هو تجاوزه لتردد سلفه شيراك في التعامل معها دون شعور بالحرج عندما يتعلق الأمر بالملف اللبناني تحديداً، دون التنازل لها بشكل واضح أو معلن. وقد أقنع الرئيس الفرنسي سيد البيت الأبيض بعد جهد جهيد بتلزيم المسألة اللبنانية لدبلوماسيته، على وعد تمكنه من تحقيق اختراق في التعامل مع سوريا وحلفائها الأقوياء في لبنان. وإذا ما فشل ساركوزي في هذه المهمة الصعبة، بل المغامرة، من واقع استمرار تجاذبات الاستحقاق الرئاسي، فسيسمع من واشنطن تهماً مباشرة بسذاجة دبلوماسيته وفشل رهانته، وهذا ما يفسر حدة ردوده وإنذاراته المتلاحقة الآن لدمشق، فيما يبدو أنه تلويح بالعصا بعدما أثبتت كل أنواع الجزر عدم جدواها، بشكل واضح. ولأن الدبلوماسية الأميركية في التعامل مع سوريا ظلت تسير من فشل إلى فشل، فإن ذلك يعطي مصداقية أكبر الآن للخيار الفرنسي المزاوج بين التصريحات الغليظة وترك النوافذ الخلفية مفتوحة على رغم كل شيء. فبالحوار يمكن تحقيق ما عجزت عنه الضغوط.
إعداد: حسن ولد المختار