ربما أمكن توصيف الحياة العربية الراهنة كما لو كانت نسيجا كبيرا من الشروخات والفجوات وأنواع التفكك والتفتت، بيد أنه لا شيء فيها أكثر تفككاً مما هو عليه حال العلاقة بين الرباعي: المثقف، والصحافة اليومية، والأكاديميون، والجمهور·
ولعل هذه العلاقة التي افتقدتها الثقافة العربية طوال الفترات التي أعقبت مرحلة الطليعة العظام من أمثال الدكتور طه حسين وعباس محمود العقاد··· هي ما يحاول استعادته كتاب إحياء المقال السياسي··· الحقائق الغائبة لمؤلفه الدكتور طارق سيف، من خلال الحرص على تحقيق معادلة صعبة، هي تناول الموضوعات والقضايا من وجهة نظر علمية وأكاديمية، وفي الوقت نفسه مخاطبة فئات مختلفة وواسعة من القراء ·
وقد جاء الكتاب في 258 صفحة من الحجم المتوسط، واشتمل على 69 مقالة من المقالات التي بدأ المؤلف بنشرها أسبوعيا على صفحات الرأي في جريدة الاتحاد ، منذ منتصف يناير عام ،2002 أي في أتون الحملة العسكرية الأميركية على أفغانستان، فيما نشرت المقالات الأخيرة من الكتاب، مواكبة للحرب الأميركية على العراق ·
وعلى رغم أن ترتيب مقالات الكتاب جاء وفقا لتسلسل تواريخ النشر فقط، فإنه يمكننا هنا تصنيفها حسب الموضوعات أو القضايا التي اهتمت بمعالجتها في سبعة محاور أساسية:
أولها محور يتعلق بقضايا محلية وخليجية، واشتمل على 18 مقالة، يتحدث في أربعة منها عما آلت إليه التركيبة السكانية في العديد من دول مجلس التعاون، وعن وجوه التناقض في منظومات القيم الثقافية والاجتماعية التي أصبحت تتعايش وتتجاور على نحو ملفت في هذه الدول·
وفي مقال بعنوان القائد والفكرة ، تناول المؤلف جانبا من الدلالات والأبعاد التي تتصل بعيد الجلوس، ثم كتب عن ثوابت البناء في فكر الشيخ زايد وسلوكه، والتي صاغت مسيرة الاتحاد وتوجهاته·
وفي مقالين حول التعليم العالي، يرى المؤلف أن اللجوء الى معالجة ضعف التعليم العالي الحكومي من خلال إنشاء جامعات خاصة هو أقرب الى معالجة الخطأ بالخطأ ، وأن هذه الجامعات أصبحت بمثابة بقالات خاصة تتعامل مع الشهادات والمؤهلات الدراسية بأسلوب البيع والشراء · وتعرض في مقالين منفصلين إلى مشكلات الإعلام الخليجي الذي لم ينجح في بلورة شخصية ذات ملامح خاصة ، بما في ذلك نتوء الصحف الصادرة باللغة الإنجليزية، والتي هي تحت السيطرة الكاملة أو الجزئية لجاليات أجنبية بعينها·
أما في المحور الثاني، والذي يضم 19 مقالا تتعلق في مجملها بالسياسات الأميركية في مرحلة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، فيتساءل المؤلف: هل يمكن تغيير السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط؟ ، ليوضح أن هذه السياسة تنبع من عدة معطيات وحقائق، منها مثلا أن اليهود يسيطرون على 60 في المئة من الوظائف الرئيسية في وزارة الدفاع الأميركية البنتاغون ، ونحو 20 في المئة من الوظائف الأساسية في وزارة الخارجية، إضافة إلى الدور الفعال الذي تلعبه مراكز البحوث والدراسات وأجهزة الإعلام وجماعات الضغط اليهودية، في التأثير على مجمل السياسات الأميركية· كما أن الولايات المتحدة التي أزاحت منافسيها جميعا وأصبحت مثالا على الدولة المارقة ، تصر على إعلاء مفهومي (القطب الأوحد)، و(المصالح الأميركية) فوق كل ما سواهما ··
ويضم المحور الثالث 15 مقالا، تتناول الجوانب والعوامل المتعلقة بـ أزمة التقدم العربي وتجلياتها المختلفة، وفيه يقارن المؤلف بين التطورات الفكرية الطموحة التي شهدتها المنطقة العربية في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وبين ما يحدث لها في نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، ليصل إلى أننا أمة فقدت الذاكرة · بل يبدو العالم العربي بلا فكر ؛ فدعوات العصرنة والتحديث على اختلافها، غادرت الساحة السياسية ليحل محلها تيار الإسلام السياسي · وهذا أحد الأوجه الرئيسية لـ مأزق النظام السياسي العربي ، حيث لا توجد مقابل أنظمة الحكم الاستبدادية القائمة، معارضة سياسية جدية ومنظمة سوى التيارات الدينية وهي غير مؤمنة بالديمقراطية · فهل يأتي إذن التغيير السياسي من بوابة صدام! ؟
ويشتمل المحور الرابع على 6 مقالات تتناول قضايا إعلامية مختلفة، منها رسالة إلى الصحفي الأميركي الشهير توماس فريدمان الذي اعتاد أن يبعث رسائله إلى الرؤساء العرب، ومقال حول قناة الثعلب اليهودية ، أي قناة فوكس الأميركية· ومقال آخر يوجه خلاله المؤلف سؤالا مهماً إلى الكتاب العرب: لمن نكتب؟ ، ويرى أنه إذا كنا نكتب للمسؤولين العرب فقد فشلنا فشلا ذريعا ، وإذا كنا نكتب للمثقفين فانهم في واد آخر تماما ، وإذا كنا نكتب للمواطن العربي العادي (···) فإننا نكون قد فشلنا أيضا · وفي مقال رابع ذي صلة يرسم نماذج لمن يسميهم مرتزقة الكلمة ، وهم الذين ينتشرون من كل جنس ولون، في الصحف والمحطات الإذاعية والقنوات الفضائية ومجالس المسؤولين والوزراء ·
أما المحور الخامس والمتعلق بالقضية الفلسطينية، فيضم مقالين، في أحدهما وهو شارون يجدد العهد ، يبين المؤلف أهمية وجود قائد إسرائيلي مت