المواطَنة... وشروط الديمقراطية
ليست الديمقراطية نظاماً سياسياً صورياً يُنقل من منطقة ويزرع في منطقة أخرى. بل هي تطور طبيعي للمجتمعات بنية وثقافة، ونتيجة لصراع طويل ضد الديكتاتورية وهي نظم التسلط والقهر والطغيان والطائفية والمذهبية والعرقية.
الديمقراطية إذن لها عدة شروط منها المواطَنة ومساواة جميع المواطنين في الحقوق والواجبات أمام القانون. المواطنة هوية المواطن وليس العرق أو الطائفة أو المذهب أو القبيلة أو العشيرة أو الأسرة. ولقد قامت الثورات الغربية الحديثة باسم المواطنة. وكتب هوبز "في المواطن" تنظيراً لثورة كرومويل في إنجلترا. وقامت الثورة الفرنسية في 1798 باسم المواطنين، وتم الإعلان عن "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن". وقامت الثورة الاشتراكية الروسية في 1917 باسم "الرفاق". فالمواطن لا ينتسب فقط إلى وطن بل أيضاً إلى جماعة، فالمواطن في هذه الحالة هو "الرفيق". ومازالت الحركات الدينية المعاصرة، تفضل لفظ "الأخ". وجمع عبدالناصر في افتتاحيات خطبه بين الوطن والجماعة، بين الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية في "أيها الإخوة المواطنون".
وتقوم المواطنة على الفرد. فكل مواطن فرد. وكل فرد مواطن. لذلك قامت الديمقراطية البرلمانية على أنه "لكل فرد صوت". فلا تشترى الأصوات جماعة، أصوات الأسر أو العائلات أو البلديات أو القرى أو القبائل. والوعي الفردي يتطلب درجة من التعليم والاستقلال والوعي الذاتي والثقافة الفردية التي لا توفرها مجتمعات "سي السيد"، أو الشرطي و"فتوة" الحي.
وباجتماع المواطن والفرد تنشأ حقوق الإنسان الطبيعية كما دونتها المواثيق الدولية والإعلانات العالمية بما في ذلك "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الإسلامية" التي لا تختلف في جوهرها عن "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" إلا بإضافة بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تدعيما لها. وهي حقوق مادية، إشباع الحاجات الأساسية من طعام وشراب ولباس ومسكن وتعليم وصحة وحركة، وحقوق معنوية فيما يتعلق بحرية التعبير عن الرأي واختيار من يحكمه ويثق فيه. وهي الحقوق التي جسدتها مقاصد الشريعة الضرورية الخمسة: الحفاظ على الحياة والعقل والدين أي القيم والأخلاق، والعرض أي الكرامة والشرف، وأخيراً المال أي الثروات الوطنية.
وحق المواطن الفرد الحُر هو حرية الفكر والتعبير، وشرعية الاختلاف. فالتفكير حق طبيعي للإنسان. والتعبير عن الرأي واجب وطني. والساكت عن الحق شيطان أخرس. وذلك ضد الرقابة على الصحف وسيطرة الدولة على أجهزة الإعلام، والتعليم النمطي. ومنها حق النقد والمعارضة والاعتراض. فالنقد أهم ما يميز الفكر لأنه يفك إسار الحاضر، ويدفعه نحو التقدم.
وتتطلب حرية الرأي الفردي احترام آراء الآخرين دون تكفير أو تخوين أو إبعاد واستقصاء. فالآخر هو فرد مواطن. له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات. وفي المجتمعات التقليدية يسود احتكار الرأي من المؤسسات الدينية والسياسية والتعليمية والإعلامية. لذلك تضعف المعارضة، ويندر الرأي الآخر، ويغيب تداول السلطة.
وأخيراً الشعب هو مصدر السلطات وليس الحاكمية أو الأغلبية أو الأقلية أو الطبقة أو الجيش أو الشرطة أو القوة أو المصلحة. تنشأ السلطة استقراءً وليس استنباطاً، من مجموع إرادات الأفراد الجزئية ممثلة في الإرادة العامة، وليست مفروضة من الإرادة العامة على إرادات الأفراد.
وأزمة الوطن العربي وما حوله خاصة في أفريقيا أن الديمقراطية كحل سحري لتطوير المجتمعات لا تتوافر شروطها الاجتماعية والثقافية. ففي مجتمع مثل كينيا الذي كان يضرب به المثل في الحياة الديمقراطية تم تزييف الانتخابات الأخيرة. فنزلت المعارضة إلى الشارع. وأخذ الصراع بين الحكومة والمعارضة شكلاً قبلياً، وقتلاً على الهوية دون احترام للخلاف السياسي ولا لحقوق المواطن. فالقبلية أساس المجتمع وليس الانتخاب الحر الفردي بين أغلبية وأقلية. وتزييف الانتخابات إنكار للإرادة العامة. والصراع القبلي يطعن في المساواة بين المواطنين. وحياة الأفراد ليست حقاً طبيعياً إذ يسهل سفك الدماء والحرق بالنار. ولا يتحقق السلام الاجتماعي إلا بالحوار السياسي، والمشاركة في السلطة بين الحكومة والمعارضة لحين انتخابات أخرى صحيحة للتعرف منها على الإرادة العامة.
وفي لبنان الاختيار للطائفة أو المذهب أو الأسرة بالرغم من وجود أكثرية وأقلية وانتخابات برلمانية وصحافة حرة ودستور. ولم يمنع ذلك كله من الاغتيالات السياسية والعنف والقتل والاغتيال والاعتصامات في الشوارع. فالطائفية والمذهب والأسر الكبيرة هي ولاءات معظم الناس. لذلك تعثرت الديمقراطية بالرغم من توافر الشكل، الانتخابات، والأكثرية والأقلية، والدستور، والبرلمان، وحرية الصحافة. وفي العراق لا يقال الآن العراقي أو الوطني بل الكردي، والعربي، والتركماني، والسني، والشيعي وهكذا. وتضاف إلى ذلك العشائر كجماعات ومشايخ للتفاهم بين الأجنحة المتصارعة. وفي السودان طوائف وأعراق، شماليون وجنوبيون، عرب وأفارقة. فما يجمع الناس هو الدين أو الطائفة والعرق أكثر من المواطنة السودانية التي يتساوى فيها الجميع. بل إن اقتسام السلطة والثروة بين الشمال والجنوب والشرق والغرب ودارفور وكردفان ليس مظهراً من مظاهر الديمقراطية بل هو تقسيم الثروات الوطنية طبقاً للأعراق وبالتالي تأكيداً للهويات الجماعية وليس للمواطنة السودانية. ويخطط نفس الشيء لمناطق عربية أخرى بين السنة والشيعة، وسوى ذلك من هويات طائفية وعرقية وليست هويات وطنية. في الظاهر المواطنة والمساواة وفي الباطن الولاءات العرقية والطائفية. بل إن مصر التي عرفت بتجانس شعبها عبر التاريخ يتحدث البعض عنها أيضاً بمنطق الهويات الجزئية مثل القبطية والإسلامية. لذلك كثر هذه الأيام الحديث عن التحول من دين إلى دين ثم العودة إلى الدين الأول، وماذا يُكتب على البطاقة القومية مسيحي سابقاً أو مسلم مرتد! وأي الأديان أسهل في قوانين الزواج والطلاق وقانون الأحوال الشخصية؟
في المجتمعات التقليدية هناك بدائل عن الديمقراطية البرلمانية الغربية مثل الديمقراطية التعاقدية أو التوافقية أو الديمقراطية الائتلافية التي تتفق فيها جميع الطوائف والمذاهب والأعراق على الحد الأدنى من البرنامج الوطني يلتف حوله الجميع، حكومة أو معارضة. يحدث هذا في مجتمعات غير غربية مثل اليابان والصين وكوريا. ويحدث أيضاً في البلاد الإسلامية مثل ماليزيا. وهي تجربة الحزب الواحد الذي تتعدد فيه الأجنحة وتتصارع فيه التيارات. وهي خطوة ضرورية نحو الديمقراطية البرلمانية بعدما يبرز مفهوم المواطن الحر وانتهاء ثقافة إبعاد الرأي الآخر وإقصاء المخالف في الرأي، وعقلية "الفرقة الناجية".
ليست الديمقراطية شكلاً بل مضمون. ومضمونها ضد الاستبداد بالرأي واتخاذ القرار المنفرد، والدفاع عن حق الاختلاف وشرعيته. والتحديد سلباً أقوى من التحديد إيجاباً. ويتكيف الشكل طبقاً لطبيعة المجتمعات ومراحل تطورها وبنية ثقافتها. والديمقراطية الشكلية المفروضة هي شكل من أشكال الديكتاتورية السياسية وهيمنة النموذج الأوحد على كل المجتمعات. وهي وسيلة لا ديمقراطية لفرض الديمقراطية. هي ديمقراطية معكوسة تقضي على نفسها بنفسها. ولا يقلل من سحر النموذج الأوحد إلا القيام بعمليات ديمقراطية ضد الاستبداد بالرأي والتفرد بالقرار.