··· انقسمت الأنظمة العربية قسمين تجاه الجماعات الإسلامية· الأول مازال يعتبرها منافسا خطيرا له في الحكم، وما زال يسلط سيف اللاشرعية عليها· فإذا ما ازداد نشاطها، اتهمت بتدبير مؤامرة لقلب نظام الحكم، وقدم قادتها إلى المحاكم العسكرية التي لا نقض فيها ولا إبرام· فإذا ما سمح نظام سياسي لتخفيف الضغط عليه بإجراء انتخابات شعبية يكون الإسلاميون طرفا فيها فينجحون في الانتخابات المحلية، ويحصدون حوالى ثلثي المجالس، ينقلب الجيش عليها باعتباره الوريث الشرعي لحركة التحرر الوطني التي حصل بها الشعب على الاستقلال· فالجيش هو الحامي للشعب· وتغرق البلاد في بحر من الدم، مئة ألف قتيل على مدى عشر سنوات بين الدولة والإسلاميين، صراعا على السلطة، سلطة الجيش ممثلة في الدولة وسلطة الشرعية التي أتى بها الإسلاميون إلى المجالس المحلية· وتقدم سلطة الدولة ذريعة أن الإسلاميين غير ديمقراطيين، وأنهم أعلنوا أن هذه الانتخابات التي نجحوا فيها هي آخر الانتخابات· فلا تداول للسلطة، ولا تنازل عن الحكم· وتقع البلاد في حرب أهلية طاحنة· وكان الوطن قد كسب أكثر وخسر أقل إن لم ينقلب الجيش على الدولة، وألغى نتائج الانتخابات· وترك الإسلاميين في الحكم يواجهون مشكلات الفقر والبطالة والفساد والديون الخارجية· فإذا عرف الناس أنهم لم يحصلوا على شيء بالشعارات، ولم تحل قضاياهم بالعواطف الإيمانية لم ينتخبوا جبهة الإنقاذ من جديد· وتكون البلاد قد مرت بتجربة ديمقراطية فعلية تقوم على تداول السلطة بدلا من الاقتتال بين الإخوة الأعداء، وشق الصف الوطني، وقتل الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ الذين لا حول لهم ولا قوة·
وقد يقوم الإسلاميون بانقلاب ضد الجيش أو معه وتستمر لعبة شد الحبل بين الفريقين· فتتوقف الحياة السياسية لتعطيل الرئتين معا·
والثاني اعتراف الأنظمة السياسية بشرعية الحركات الإسلامية وقبولها أن تكون طرفا في التعددية السياسية والمسار الديمقراطي، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، وقبول تداول السلطة على الأقل في الشكل من حيث الإعلان والبداية، وقد تكون النتائج والنهاية مختلفة، وتنتهي إلى مأساة الجزائر نفسها· فقد قبلت الأردن والكويت واليمن والمغرب ولبنان التعددية السياسية· ودخل الإخوان المسلمون في الأردن وحركة الإصلاح في اليمن والكويت الانتخابات· تزداد مقاعدها في دورة ثم تقل في دورة ثانية بعد أن يدرك الناس أن الشعارات لم تحل شيئا، وأنه لا فرق بين عشائرية في السلطة وجماعات إسلامية في المعارضة· فكلاهما يحكمهما المنطق نفسه، الحكم والسلطة، بصرف النظر عن البرامج السياسية والتغير الاجتماعي· لم تستطع الحركات الإسلامية الوصول إلى الحكم إلا في المغرب وتركيا وإيران· فتجربة المغرب في تداول السلطة مشهود لها، من حزب الاستقلال إلى الاتحاد الاشتراكي إلى حزب العدالة والتنمية· وحدث الشيء نفسه في تركيا من الأحزاب القومية إلى حزب الرفاه إلى حزب العدالة والتنمية· وفي إيران تتجاذب الحياة السياسية والبرلمانية الصراع بين المحافظين والإصلاحيين· ونظرا لعدم حصول أي من القوى السياسية في هذه التجارب شبه الديمقراطية على الأغلبية المطلقة التي تساعدها على الحكم فإنها دخلت في حكومات ائتلافية وجبهات وطنية مع باقي الأحزاب مما يساعد على تحويل الحركات الإسلامية لشعاراتها الدينية إلى برامج سياسية واجتماعية تتقارب أو تتباعد مع باقي البرامج السياسية لباقي الأحزاب·
والنظم السياسية العربية الحاكمة نوعان: ملكية وعسكرية· الملكية تستمد شرعيتها من الوراثة: مات الملك، عاش الملك· والعسكرية تستمد سلطتها من الانقلاب العسكري أو ثورة الجيش المباركة، أي القوات المسلحة حامية الدستور، وحارسة النظام· ومنها يكون الرئيس· يتوارث الجيش الرئاسة التي أصبحت حكرا عليه· وأصبحت الجمهورية الملكية نوعاً من أنواع الحكم·
والحقيقة أنه لا فرق بين النظامين في وراثة السلطة وتوريثها، العسكرية محصورة في الجيش، والملكية محصورة في العائلة المالكة· وتتعدد الواجهات الديمقراطية من مجالس الشورى والشعب والأمة والبرلمان· والتزييف هو الشائع· ونجاح الرئيس والحزب الحاكم بنسبة 99,9%· وتزوّر كشوف الانتخابات· وينتخب الأموات مع الأحياء سواء كان ذلك بإشراف قضائي أو بدون إشراف· وتكون النتيجة الطعن في الانتخابات بل وحل المجالس النيابية لعدم شرعيتها بقرار من المحكمة الدستورية العليا·
والنظامان كلاهما لا يستمدان سلطتيهما من الشعب، ولا يقومان على البيعة العامة واختيار حر للناس كما حدد القدماء الإمامة عقد وبيعة واختيار · كلاهما ثيوقراطي البنية، وكأنه اختيار إلهي، باسم الله أو باسم السلطان· وكلاهما قادر على كل شيء يعلم ويقدر، يسمع ويبصر، يتكلم ويريد· كلاهما له شرعية من أعلى، وتنقصه الشرعية من أسفل· والجماعات الإسلامية لها شرعية من أسفل عن طريق الخدمات للناس وليس لها شرعية من أعلى أي من القانون والاعتراف الرسمي بها·
وتستمد النظم القهرية خاصة العسكرية منها شرعية لها عن طريق الدي