التربية الإيجابية
مصطلح التربية رغم سهولته، إلا أنه يحمل العديد من المعاني والرموز والدلالات التي حار الناس فيها منذ القدم، ولعل أحد أبرز أسباب هذه الحيرة والغموض كون التربية يختص بها الإنسان وهو من أعقد المخلوقات من حيث تكوينه النفسي والعقلي والجسدي، ومن هنا برز لدينا صراع بين أصحاب المدارس المختلفة في فهم الإنسان، وكذلك طرق تربيته والتعامل معه.
ويتعلق أول هذه الخلافات بما إذا كان الإنسان خيراً بطبعه أم شريراً، وهل هو يحمل مع وراثته بعض الصفات التي جبل عليها بفطرته أم أن السلوك مسألة مكتسبة متعلمة. وتكمن خطورة الإجابة على هذه الأسئلة في أننا لو افترضنا جدلاً أن الإنسان شرير بطبعه فننسف مثلاً كل محاولات إصلاحه؛ لأن المعوج لا يستقيم، ولو افترضنا فيه الخيرية فإن ترك الإنسان على هواه سيظهر فيه هذا الخير شئنا أم أبينا. وبما أن الإنسان ومكوناته من الألغاز التي لا ندركها فإننا كمسلمين نرجع الأمر إلى الخالق سبحانه وتعالى وهو الذي يقول لنا: "ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها"، فالنفس البشرية بفطرتها تحمل شحنات الخير والاستعداد للشر، ومن هنا عقبت الآية التي سبقت بقوله تعالى: "قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها". الفلاح كل الفلاح في تزكية هذه النفس، ومصطلح التزكية عند المسلمين هو أرقى من التربية، كما نقول اليوم في العلوم التربوية المعاصرة؛ لأن التزكية فيها شحنات إيجابية تشير إلى الخير والصلاح، بينما كلمة "تربية" تشير إلى الحيادية التي لا ندري نتائجها، هل هي بالسلب أم بالإيجاب.
أما مسألة أن يتوارث الإنسان طبائعه عبر الصفات الوراثية، فهذا يتعارض مع حرية الإنسان التي قال الله تعالى فيها "إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفوراً". ومبدأ الجبر في السلوك من القواعد الخطرة تربوياً؛ لأننا نقول بلغة الحال قبل المقال إذا كان الله تعالى جبلني على الانحراف مثلاً فلم يحاسبني؟ ولو كنت عصبياً بالوراثة فليس هناك من داعٍ لتعلم السكينة والهدوء والحلم والصفح؛ لأن الطبع يغلب التطبع، وهذا أمر مرفوض تربوياً؛ لأن الإنسان في حقيقة الأمر إنما يحمل استعدادات وراثية هو يبرمجها للخير أو للشر. دعونا نأخذ مثلاً على أحد أهم الدوافع البشرية للسلوك، ألا وهو الجنس، فهو بلا شك فطرة لدى الناس ودافع للحراك والعمل، يصرفه الناس وفق الطرق الشرعية كي يسعدوا وتستمر الإنسانية في عطائها، وقد يصرفه الناس دون ضوابط تذكر فيتحول إلى سلاح هدم للمجتمع والفرد، فمجتمع تشيع فيه الانحرافات الجنسية وما صاحبها من أمراض أرهقت البشرية، والفرد نفسه وإن بدا سعيداً لحظة التصريف الهرموني لمشاعره فإنه يشعر بالغضب والاكتئاب لسلوكه الذي أشبع هرموناً معيناً لكنه هدم الشعور الحقيقي باللذة والسعادة، فالإنسان في خلاصة القول، يحمل استعداداً معيناً للخير والشر، وهو الذي يحدد مساره في الحياة.
بعد المقدمتين السابقتين من المهم جداً في تربيتنا، كآباء وكأمهات وكمعلمين وكبشر بشكل عام، أن نقدم الافتراضات الإيجابية في تعاملنا مع الصغار، فهم كما نتوقع منهم. فمثلاً الأم التي تفترض أن ابنتها لديها نوع من الانحرافات لكثرة ما تسمع من كلام الأمهات عن بناتهن وما يقمن به من سلوك مرفوض، تبدأ في سلسلة من الشك فيما يرتبط بتربيتها لابنتها، هذا الشك الذي يقودها للتجسس على ابنتها كي تمسك بها متورطة في سلوك أو تصرف مرفوض، في حقيقة الأمر قد تكون هذه الأم هي التي دفعت هذه الفتاة لذلك السلوك؛ لأن ما نفترضه نحن في الإنسان قد يتحول من عالم اللاوعي لدينا إلى مرحلة الوعي ونحن لا ندري، وتكون ردة فعل الطرف الآخر غير متوقعة في كثير من الحالات... فهل نغلب التربية الإيجابية في حياتنا، كي نقطف ثمارها؟