"ياداف"... دخول السياسة من بوابة الطب
ثمة ظاهرة مُحيرة لا نجد صنواً لها في العالم المتقدم، هي لجوء الكثيرين من نخب العالم الثالث إلى اقتحام عالم السياسة الشائك من بوابة الطب، بمعنى الولع بالخطاب السياسي والتنظير الأيديولوجي بدلاً من فك الألغاز العلمية في المعامل ومراكز التشريح وغرف العمليات وصولاً إلى اكتشافات تخلد أسماءهم في التاريخ وتسجيلها بأحرف من نور.
والأمثلة بطبيعة الحال كثيرة لا حصر لها، وبعضها من العالم العربي الذي تبدو فيه النخب، إما على عجلة من أمرها للبروز والنبوغ، وإما غير مقتنعة بما توفره مهنة الطب لأصحابها من وجاهة اجتماعية أو نفوذ اقتصادي أو أداة سلطوية.
وإذا ما تجاوزنا هنا المثال الفلسطيني مجسداً في الحكيم "جورج حبش"، والمثال اللبناني مجسداً في الحكيم "ميشيل جعجع"، رغم الفارق الفكري الكبير والتباين الزمني الواسع، فإنه لابد من تذكر سوريا أواخر الستينيات التي كان فيها على رأس القيادة ثلاثة من الأطباء دفعة واحدة، وهو ما دفع وزير خارجية الدولة الحليفة آنذاك "أندريه جروميكو" إلى التعليق بالقول: "تبدو حليفتنا مريضة جداً، وإلا لما حكمها ثلاثة أطباء معاً، في إشارة إلى الدكاترة نور الدين الأتاسي، ويوسف زعين، وعمر باخوس.
وفي السياق نفسه، لكن في أوروبا، ربما كان من المرات النادرة التي يهجر فيها الطبيب معامله من أجل الاشتغال بالسياسة، هو ما حدث في ألبانيا في أعقاب سقوط نظامها الشمولي وإجراء أول انتخابات رئاسية ديمقراطية، حيث أقنعت قوى سياسية حديثة النشوء جراح القلب "صالح بريشا"، بضرورة خوضه لتلك الانتخابات من منطلق قدرته على التعاطي مع مختلف الأمراض، وهو ما فشل فيه الدكتور بريشا بعد فوزه ووصوله إلى سدة الرئاسة.
أما آخر الأمثلة في هذا السياق، فمصدره أحدث جمهوريات العالم، ونعني به النيبال التي اجتازت مخاضاً عسيراً حتى تمكنت في أواخر يوليو المنصرم من الاتفاق على شخصية تخلف ملكها المخلوع "جيانيندرا". ولم تكن هذه الشخصية سوى الدكتور (طبيب) رام باران ياداف (61 عاماً) الأمين العام لحزب "المؤتمر" النيبالي، أحد أقدم الأحزاب السياسية في البلاد، والذي تمكن من الفوز على "رام راجا براساد سينج" مرشح الثوار "الماويين" البالغ من العمر (73 عاماً) بحصوله على 308 أصوات فقط، وهو ما جعل انتخابه محاطاً بالشكوك وقابلاً للطعون الدستورية، لأن الدستور ينص على ضرورة حصول أي رئيس على عدد من الأصوات لا يقل عن 230. وفي الوقت الذي كان فيه نيباليون كثر يحتفلون بهذا الحدث الذي أنقذ البلاد من الشلل والإحباط على مدى الأشهر الثلاثة الماضية، كان الثوار الماويون يتجرعون كأس المرارة بسبب فشل رهانهم بالفوز بالسلطة التي قاتلوا من أجلها لعقود، بل بسبب عدم تمكنهم من الفوز بأي من المناصب الكبرى في الدولة بما في ذلك منصب نيابة رئاسة البلاد الذي آل في اقتراع أجري في يوم 21 يوليو المنصرم في الجمعية التشريعية إلى السياسي المخضرم "مان باماناندجها" المنحدر كرئيسه من أقلية "ماديسي" ذات الجذور الهندية والقاطنة على طول الحدود النيبالية-الهندية، والتي كانت محل قمع وتمييز وظيفي خلال السنوات الماضية بسبب ما قيل عن سعيها للانفصال عن البلاد في دولة مستقلة. وهذا على كل حال لا يزال حلماً يدغدغ عواطف هذه الأقلية، التي ترى أنه من الأفضل لنيبال أن تقسم إلى ثلاث مقاطعات متوازية، تضم الأولى الهضاب الوسطى، والأخريان تضمان المرتفعات الجبلية الجليدية. وهذا ما يعارضه حزب الشعب "الماوي" والحزب الماركسي اللينيني اللذين لكل منهما مشروعه الخاص حول الدولة النيبالية الفيدرالية.
هذه الأنباء وغيرها مثل تصريح آخر رؤساء حكومات العهد الملكي والقطب البارز في حزب "المؤتمر" والجمعية التشريعية "يرجيا كويرالا" من أنه يؤيد خيارات الأقلية الماديسية مقابل أن يقدموا له ولكتلته دعماً غير مشروط من خلال ما يمتلكونه من أصوات برلمانية (52 صوتاً) فتحت الباب أمام الكثيرين لقرع أجراس الإنذار من احتمالات دخول منطقة جنوب آسيا أو أجزاء منها مرحلة البلقنة على النمط اليوغوسلافي، وذلك على نحو ما أفاد به رئيس وزراء مقاطعة "سيكيم" الجبلية الهندية في الهملايا، وما صرح به أيضاً وزير خارجية سريلانكا الذي حضر إلى كاتماندو لتوجيه دعوة إلى الرئيس النيبالي الجديد لحضور أول قمة لدول جنوب آسيا يغيب عنها ملك نيبالي (مقرر عقدها في الثاني من أغسطس).
وفي مقال يعبر فيه عن اليأس والإحباط، كتب "ماداف.ك. ريمال" في مجلة الأضواء المحلية واسعة الانتشار مقالاً يقول فيه: "أليس من المحزن والمؤسف أن بلداً عريقاً كنيبال فشل في إنتاج شخص واحد على الأقل لديه من الكاريزما والموهبة والمصداقية والنزاهة ما يجعل الناس يلتفون حوله ويجمعون عليه بهدف إنقاذ الوطن من التمزق، ناهيك عن الخرافات والأساطير التي تعشش في الرؤوس، فتثير أنباء سيئة مثل احتمال حدوث كوارث طبيعية كتلك التي حدثت مؤخراً في الصين وبورما، إن حدث هذا، أو إن لم يحدث ذاك.
فإذا ما عدنا إلى الزعيم النيبالي الجديد، فإنه من السهل الجزم منذ إلقاء النظرة الأولى عليه بأنه يختزل بملابسه المتواضعة المكونة من القميص الهندي الطويل وسرواله البنجالي الواسع ودائرة البندي الحمراء التي تتوسط جبهته وشواربه الخفيفة المرسومة بدقة ومهارة، صورة الإنسان النيبالي البسيط، أو صورة الغالبية العظمى من النيباليين.
ربما الأمر الوحيد الذي يختلف فيه الرجل عن مواطنيه أن حظه قاده إلى الحصول على قدر أعلى وأجود من التعليم، في بلد بالكاد يحصل فيه المواطن على التعليم الأولي مجاناً.
ولد "ياداف" لعائلة من الفلاحين الفقراء في مقاطعة "دانوشا" في الرابع من فبراير 1949، غير أن فقر الأسرة وعوزها وبؤس أحوالها، لم يقف عقبة في طريق مواصلة الصبي لتعليمه المتقدم في العاصمة كاتماندو، حيث أثبت ما أهله للفوز بمنحة لدراسة الطب في كلية الطب بكلكتا ودراسة طب المناطق الحارة في مدرسة طب المناطق الاستوائية الهندية.
ورغم انصراف الرجل كلياً نحو الهدف الذي جاء إلى الهند من أجله، فإن الأجواء العامة في تلك الحقبة لم تدعه وشأنه وفرضت عليه الدخول في "الجماعة الديمقراطية"، التي كانت تعمل وقتذاك من أجل نيبال مستقلة ديمقراطية، لكن دون أن يسرقه ذلك من هدف نيل درجة الماجستير في طب المناطق الحارة.
في أعقاب عودته إلى بلاده، مارس "ياداف" الطب لمدة أربع سنوات من خلال عيادة افتتحها في مدينة "جانا كبور" المقدسة التي يقال إن إله الهندوس "أيوديا" اقترن فيها بالإلهة أيسترا.
غير أن السياسة كانت أقوى من الطب، فسرعان ما سرقته بتشجيع من رفاقه في حزب "المؤتمر" ليتنافس على المقعد التشريعي المخصص لمسقط رأسه في دائرة "ساباهي" في انتخابات عام 1987، وليخرج فائزاً ليس بالمقعد النيابي، وإنما أيضاً بحقيبة الصحة التي لم يجد زعيم حزبه المكلف بتشكيل الحكومة "جيرجيا كويرالا" رجلاً أفضل منه لإسناد المنصب إليه.
وفي أول حديث له إلى الصحافة بعيد فوزه برئاسة الجمهورية الوليدة، أكد "ياداف" أن بلاده تواجه تحديات عديدة، على رأسها كتابة دستور عصري ديمقراطي، والقضاء على بعض الجيوب المسلحة التي لا تزال تؤمن بالعنف سبيلاً وحيداً لتحقيق غاياتها. أما رده على اتهامات "الماويين" لحزبه بالتآمر مع الحزب الماركسي اللينيني لإبعادهم عن السلطة، فتضمن الإشارة إلى اتساق كل ما حدث مع جوهر الديمقراطية وضمن الإجراءات التشريعية والدستورية، مضيفاً أن ما حدث كشف بطريقة لا تدعو إلى الشك بأن "الماويين" ليسوا سوى فصيل سياسي على الساحة السياسية النيبالية، بمعنى أنهم لا يمثلون كل الشعب النيبالي.