الرأي العام والمسألة السودانية
تلقيت حوالي عشرين رسالة تعلق على مقالي المنشور الأسبوع الماضي، والذي جاء تحت عنوان "رؤية متوازنة للمسألة السودانية". ويمكن تقسيم التعليقات إلى ثلاثة أقسام: الأول يحمل بشدة على النظام الدولي الذي يتسم بازدواجية المعايير، فيتجاهل جرائم الحرب والجرائم ضد البشرية التي تقوم بها إسرائيل، ويركز على ما يدور في بلاد العرب، وفي هذا القسم ينتهي القراء إلى اعتبار طلب توقيف الرئيس البشير مجرد أداة لتمزيق السودان إلى أربع دويلات للانفراد بكل منها ونهب ثرواتها عن طريق القوى الكبرى. ونلاحظ هنا أن القراء لا ينفون وقوع جرائم ضد السكان المدنيين في دارفور، وأنهم يعتمدون في رفض طلب "أوكامبو" المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية على مفهوم حماية السيادة الوطنية للدولة السودانية.
أما القسم الثاني من التعليقات، فينطلق من مفهوم حق المجتمع الدولي في حماية الناس من انتهاكات حقوق الإنسان، التي تمارسها الدول، ويضربون المثل بمجرمي الحرب من العرب الذين قدموا للمحاكمة بتهم قتل المسلمين وارتكاب جرائم الإبادة ضدهم. في هذا القسم، يميل القراء إلى قبول المفهوم الجديد للسيادة الوطنية، والذي يسمح في حالة قيام النظم السياسية بارتكاب جرائم في حق مواطنيها بالتدخل الخارجي إعلاء لحقوق الإنسان على مبدأ حق الدولة في التصرف في مواطنيها.
وفي الحقيقة، فإن اندهاشي لهذا الانقسام بين القراء ينبع من حالة تحيز كل فريق لرؤية محددة، رغم أنني حاولت في مقالي المذكور المواءمة بين الرؤيتين. فلقد طالبت الوزيرين السودانيين السماني الوسيلة السماني وزير الدولة للشؤون الخارجية ومحمد أبوزيد وزير الشباب عندما قابلتهما في ندوة صحيفة "الأهرام" بإبلاغ القيادة السودانية بأنني- كمثقف عربي رافض للأطماع الدولية وذرائعها- أتطلع إلى عمل جاد من جانب حكومة السودان، يُرضي طموحات شعبنا السوداني، ويضمن له حقوق المواطنة والأمن السياسي والإشباع الاقتصادي، ويُبطل ذرائع النظام الدولي للتدخل. إذاً، فلقد حاولت أن أجعل رعاية الدولة الوطنية السودانية لحقوق مواطنيها أساساً للتماسك الداخلي ودرعاً ضد مخططات التقسيم والتمزيق. من هنا يصبح تصميم كل فريق على رؤيته مدعاة للدهشة الموضوعية. أما الفريق الثالث، وهو الأقل عدداً، فقد اهتم بطرح حل للمسألة السودانية خاصة فيما يتعلق بدارفور. وهنا يطالب بعض القراء بالحل العربي الاقتصادي لمشكلة التمرد في دارفور فيطالب دول الجامعة العربية بتقديم عدة مليارات تكون كفيلة بتنمية الإقليم وإقامة مشروعات اقتصادية متكاملة تشمل حفر الآبار لتوفير المياه وإقامة محطات كهرباء وبناء مدارس ومستشفيات وتوليد فرص عمل. إن هذا الحل الاقتصادي من وجهة النظر الموضوعية، يكفي لإزالة أسباب التمرد ومعظمها اقتصادي يتصل بالشكوى من التهميش والإهمال الذي عاناه الإقليم من جانب السلطة المركزية في الخرطوم. وأعتقد أن مثل هذا الحل يسانده إجراء محاكمات عادلة عن طريق القضاء الوطني السوداني لكل من ساهم في ارتكاب الجرائم ضد السكان المدنيين. هذا الحل يُلقى مسؤولية رئيسية على جامعة الدول العربية من الناحية الاقتصادية، ولكنه في الوقت ذاته يُلقي مسؤولية إقامة العدالة على الدولة السودانية بنفس القدر.
وفي تقديري أن الإسراع إلى هذا الحل بشقيه الاقتصادي والقضائي كفيل بإغلاق الثغرات التي تنفذ منها الأطماع الدولية. ولو نجحنا في إنجازه فسنحظى بسودان مستقر، يرعى حقوق مواطنيه، ويعاقب الجناة ويبعد شبح التمزيق عن قطر عربي عزيز.