في ذكرى الاحتلال العراقي للكويت
كم تبدو المسافة كبيرة بين اليوم وما كان عليه العالم العربي والخليج تحديداً قبل الثاني من أغسطس 1990. فقبل أيام من الغزو كانت بغداد حاضرة العرب ومركز قوتها، كان القائد صدام للقوميين العرب عبد الناصر الجديد، كان العراق مهيئاً للعب دور قيادي عربي، وكان ثمة من يتساءل عما إذا كان العراق سيحرق إسرائيل بصواريخه. كم تبدو المسافة طويلة اليوم، فقد غاب العراق وغُيِّب عن المشهد العربي، وبدلاً من أن يمضي صدام بجيشه لتحرير القدس، كانت الكويت محطته الأولى والأخيرة، فكان الثاني من أغسطس ضربة قاضية للفكر القومي العربي، وضربة للفكر الوحدوي.
استطاع الغزو أن يقضي على ما تبقي من وحدة صف عربي، تغيرت ثقة العربي في العربي، وتغيرت السياسة والاقتصاد وحتى علم الاجتماع. ثمانية عشر عاماً مرت على الاحتلال العراقي للكويت، غيرت ملامح منطقة الشرق الأوسط بالكامل، فهل ما حصل آنذاك كان مقدراً له أن يحدث، أو على العكس من ذلك، كان من الممكن تجنب حدوثه؟ هي مناسبة للتذكر.. مناسبة للبحث عن عظة دامية، قبل أن نُصاب بأمراض الشيخوخة، ويستفحل في مجتمعاتنا الفتية "الزهايمر" السياسي، فنفقد التجربة والعظة. لطالما كذبت علينا كتب التاريخ، فلم تؤرخ إلا للتسلط والديكتاتوريات ولأنهار الدماء العربية التي سالت إكراماً للقائد المفدى والرئيس الخالد والمناضل الثوري من على كرسي الحكم. ولطالما سخرت منا كتب الجغرافيا بخرافة الوطن العربي الواحد، حتى أصبح الاحتلال مشروعاً باسم القومية العربية، والضم مباحاً عندما يعود الفرع للأصل. إنه عالم آخر آنذاك الذي وُلد إثر الثاني من أغسطس، عالم نحاول استقراء بعض عبره، لا نحاول إعادة سرد مشاهد نهايات القرن الماضي وبدايات القرن الحادي والعشرين، إنما نحاول استخلاص دروس الكارثة حتى لا تتكرر الحماقات العربية، وتعيد إنتاج نموذج الوطن المستباح.
تعيدنا الذكرى للسؤال: من يعطي شخصاً، كائناً من كان، حق التفرد باتخاذ قرار الحرب، الذي أدى إلى مقتل الآلاف ودمار بلد وخسائر بالملايين؟ وكيف لفرد انطلق من حسابات خاطئة متسرعة ومغلوطة لموازين القوة والواقع أن ينفرد برسم مستقبل البلاد والعباد؟ أليست الديكتاتورية والاستبداد العربي المتهم الرئيسي في صناعة الديكتاتور الفرد؟ والأعجب من كل ذلك أن تحظى هذه القفزة الانتحارية بإعجاب الجماهير العربية.
كان شعار "تقاسم الثروات" شعاراً لصدام أسر به غالبية الشعوب العربية الفقيرة، التي تتطلع لثروات أهل الخليج بعيون لا تخلو من حسد، فكيف افترست تلك الشعارات الوحدة، وتقاسم الثروات والقضاء على إسرائيل قدرة البسطاء على التفكير والتبصر فوقعوا فريسة سهلة لحلم جميل، فكان الانقسام العربي الرسمي والشعبي لتعزز الممارسات هذا الانقسام وتجذره، يومها كانت المشاهد فعلاً مؤلمة، جيش عربي يجتاح أرضاً عربية، مشرداً أهله، منتهكاً حرماته، لاغياً سيادة حكومته.. مشهد لم يغب عن الذاكرة الجماعية العربية ولم يدخل التاريخ، فمازال حاضراً بيننا صورة تمزقٍ? ?عربي? ?لم نشهد له مثيلاً، ومازالت فصول الثاني من أغسطس تتوالى، فلم تنته مأساة الاحتلال باستعادة الكويت دولة ذات سيادة لكن استمرت فصولها لتضرب عميقاً في الخليج العربي وبقية الدول العربية منتجة كارثة كبرى من كوارث ?التاريخ العربي? ?المعاصر، لقد تغير المشهد السياسي العربي، واختفى العراق من المشهد السياسي العربي لينزوي في حروب وحصار، فاحتلال، فحروب أهلية بين فسيفسائه من طوائف ومذاهب وعصابات إرهاب وجدت لفكرها ساحة مفتوحة، فيما أصبحت إيران قوة عظمى واللاعب الإقليمي الوحيد والمهيمن على الخليج، فيما انزوت الدول الخليجية تلملم مشاكلها الداخلية وخلافاتها.
أما عن المشهد الداخلي، فبعد ثمانية عشر عاماً لازالت الدول العربية تعيد إنتاج أنماط التسلط العربي بدرجات متفاوتة، وتعيد رسم صورة الرئيس القائد المفدى، جمهوريات كانت أم ممالك، بل إن الدول العربية ابتكرت نماذج لتوارث الحكم في الجمهوريات. أصبحت الدول العربية اليوم مسالخ بشرية، وواحات للتسلط، فالشعوب العربية محاصرة ودائرة الحصار تضيق باستمرار، فلا تجارب ديمقراطية ولا مشاركة سياسية شعبية، فالحزب الحاكم هو الحزب الحاكم، وصناديق الاقتراع لا تقترع
إلا للرئيس، والمجالس التشريعية لا يحتل كراسيها إلا أعضاء الحزب الحاكم أو جماعات السلطة. مازال نموذج صدام يتكرر في معظم الدول العربية بآلة إعلامية ضخمة ترسم صورة الرئيس الأب القائد. جنود مجندة تكمم أفواه المعارضة ومن يشتبه بقدرته على التفكير، وتلاشت الأطروحات الفكرية من الساحة السياسية العربية، ودخلت معظم الشعوب العربية في غيبوبة الأمر الواقع، لكن كيف نستفيد من تجربة الثاني من أغسطس؟
إن دولة المؤسسات لا تنحى للحرب، ولا يستطع الرئيس دفع البلاد للحرب بقرار فردي، فالنصوص الدستورية صريحة في رسم ضوابط ممارسات الرئيس وتحديد صلاحياته، والمؤسسات الديمقراطية تعكس إرادة الشعب، فالمساءلة والمحاسبة تحد من خيارات الرئيس وأركان حربة في أن ينحو منحى كارثياً، لكن عندما يقترن غياب الديمقراطية بتغييب النصوص الدستورية والقانونية لتتشكل القطيعة بين الشعب والحكومة يفتح الباب واسعاً للمآسي، والحروب وتلك كانت المأساة العراقية في جميع فصولها بدءاً من الحرب العراقية الإيرانية ومروراً بغزو الكويت والحرب الخليجية الثانية، وحتى الحرب الأميركية البريطانية الأخيرة وسقوط نظام صدام، غابت الحكمة السياسية في قرارات القيادة العراقية، وغيب الشعب عن مصيره في سلسلة حروب عبثية أوقعت العراق أسير خيارات ديكتاتورية.
اليوم أصبحت تلك العقود أرشيفاً للذاكرة ومخزناً للخبرة، إنه درس نموذجي لما يمكن أن يحصل في أي من الدول العربية في غياب صمامات الأمان من مشاركة شعبية ومؤسسات ديمقراطية، وقبل كل ذلك الحكمة السياسية حين توضع مصائر الشعوب في عهدة باعة الأوهام، فهل استفادت الدول العربية من تجربة صدام العراق في تطوير صمامات أمانها؟ هل ساهمت الحكومات العربية في ترسيخ مبدأ سيادة القانون والمساءلة والمحاسبة؟ ليس من قبيل المبالغة أو التشاؤم حين نقول إن نموذج صدام لازال حاضراً على الصعيد العربي، نموذجاً لزعامة القائد الواحد الأوحد ونموذجاً للتسلط، فلم تتعظ الدول العربية بالإجمال من كارثة الثاني من أغسطس ومازالت تعيد إنتاج حماقاتها داخلياً وخارجياً.