بن علي: مفارقة الخصوم وربيع الاقتصاد!




في ضاحية "الكرم" القريبة من وسط العاصمة تونس، وداخل قاعة المؤتمرات الواسعة، والتي أُعد كل شيء فيها بعناية فائقة... دوّت موجة من التصفيق وهتافات التأييد حين نطق الرئيس زين العابدين بن علي بقراره مخاطباً الحاضرين: "أقول لكم بكل فخر إنني دائماً على العهد معكم، وأجيبكم بكل اعتزاز، نعم لأن أكون مرشحكم لانتخابات الرئاسة لسنة 2009". مناسبة الخطاب الذي ألقاه بن علي يوم الأربعاء الماضي، كانت جلسة افتتاح المؤتمر الخامس لحزب "التجمع الدستوري الديمقراطي" الحاكم، والذي سبق للجنته المركزية أن رشحت بن علي، في فبراير 2007، لولاية رئاسية جديدة، ثم جددت له الدعوة مع انتهاء فترتها في منتصف يوليو المنصرم. وبذلك أصبح من المؤكد أن بن علي سيخوض انتخابات العام القادم، للفوز بولاية رئاسية خامسة.

لقد تولى بن علي مقاليد الحكم عام 1987، كثاني رئيس للجمهورية التونسية بعد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. ففي يوم 7 نوفمبر من ذلك العام، قام بن علي بإبعاد الرئيس بورقيبة من سدة السلطة لـ"أسباب صحية"، وحل محله؛ فأنقذ النظام والحزب الحاكم من أزمة داخلية حادة وعميقة في حينه، حيث نجح في إعادة تنشيط الدورة الاقتصادية والاجتماعية، وخلق في ظرف وجيز إجماعاً جديداً من حوله. وإضافة إلى منصبه كرئيس للدولة، تولى بن علي أيضاً قيادة "الحزب الاشتراكي الدستوري" الحاكم، والذي تحول في فبراير 1988 إلى "التجمع الدستوري الديمقراطي"، وكان ذلك خلال ما سمي لاحقاً "ربيع الديمقراطية التونسي" الذي شهد إطلاق سراح آلاف المعتقلين، والتصالح مع قيادات المعارضة، وإلغاء محكمة أمن الدولة، وتغيير قانون الاعتقال التحفظي، والتصديق على معاهدة منع التعذيب، والسماح بتأسيس فرع لـ"منظمة العفو الدولية"، وإبطال مبدأ الرئاسة مدى الحياة، وتحديدها بثلاث ولايات على الأكثر، فضلاً عن "قانون الأحزاب" الجديد.

وفاز بن علي في أول انتخابات رئاسية عرفتها تونس، في ابريل 1989، بنسبة 99.27%، وأعيد انتخابه في مارس 1994 بنسبة 99.1%. وفي أول انتخابات رئاسية تونسية تعددية، حصل على تجديد آخر في أكتوبر 1999 بنسبة 99.45%. وإثر تعديل دستوري ألغي بموجبه، في مايو 2002، عدد الولايات الرئاسية، أعيد انتخاب بن علي في اقتراع أكتوبر 2004 بنسبة 94.49%. ومن المتوقع أن يفوز بولاية خامسة في نوفمبر من العام القادم تتيح له البقاء في الحكم حتى نهاية عام 2014.

21 سنة من الحكم، يعتقد الكثيرون أن ثمة ما يبررها من مكتسبات اقتصادية واجتماعية حققها بن علي خلال تلك السنوات، وقد جعلت منه أحد أنجح رؤساء الجمهوريات في العالم النامي، لاسيما أنه حافظ على معدلات نمو اقتصادي مستقرة في بلد محدود الموارد. فمنذ بداية حكمه، أطلق بن علي سياسة إصلاح وتطوير اقتصادي ارتكزت على مجالات السياحة، والتجهيز، والصيد، والنسيج، والزراعة، والصناعات الغذائية والميكانيكية والالكترونية... وعلى الخصخصة وتشجيع الاستثمار. وقد حقق الاقتصاد التونسي خلال الفترة بين عامي 1987 و2007 معدل نمو بلغ متوسطه 5% سنوياً، ونسبة تضخم لم تتجاوز 2.8%. لكن البطالة شكلت تهديداً لإنجازات الاقتصاد التونسي خلال الفترة المذكورة، وعلى الأخص بطالة حملة الشهادات، والتي ارتفعت من 0.7% عام 1984 إلى 6% عام 2004.

حققت تونس تطوراً اقتصادياً ملحوظاً خلال 21 عاماً الفائتة، وذلك في مناخ من الاستقرار السياسي والأمني، دعّمته سياسة الانفتاح. ففي عهد بن علي تم إصلاح نظام التعليم الذي أصبح إجبارياً، وأتاح غرس قيم الحداثة والتسامح، وتم إدخال تشريعات جديدة منحت المرأة التونسية امتيازات غير مسبوقة في العالم العربي. وإلى ذلك فقد اتسمت فترة بن علي بالانفتاح على النموذج الاجتماعي والثقافي الأوروبي، وخلالها عاد للزوايا الصوفية بعض ألقها، وسُمِح للمعابد المسيحية واليهودية بممارسة طقوسها.

نشأ بن علي في عائلة منفتحة ومتواضعة الحال، فقد ولد وترعرع في بلدة حمام سوسة عام 1936، وتلقى في مدرستها تعليماً مزدوجاً (عربياً وفرنسياً). وحين اشتد الصدام بين الحركة الوطنية التونسية وسلطات الاستعمار الفرنسي أوائل خمسينيات القرن الماضي، كان بن علي طالباً في معهد سوسة. في هذه الأثناء تم إيفاده إلى الكلية العسكرية الفرنسية "سان سير" ليصبح أحد أفراد النواة الأولى لـ"الجيش الوطني".

شغل بن علي مناصب عديدة في المؤسستين العسكرية والأمنية، وأسس في عام 1964 إدارة الأمن العسكري وأشرف على تسييرها خلال الأعوام العشرة اللاحقة. وابتداءً من عام 1974 عمل ملحقاً عسكرياً ثم سفيراً في عدد من العواصم الأجنبية، إلى أن استدعي في يناير 1984 ليتولى منصب مدير عام الأمن الوطني، ثم أصبح وزيراً للأمن في أكتوبر 1985، قبل أن يصبح وزيراً للداخلية في ابريل 1986. بعد ذلك بعام ونصف العام عينه بورقيبة رئيساً للوزراء مع الاحتفاظ بحقيبة الداخلية، وذلك في مرحلة اتسمت بمواجهة عنيفة مع قوى المعارضة، اليسارية والإسلامية والقومية. لكن بعد "الربيع الديمقراطي التونسي"، ستتفرق السبل ببن علي ومعارضي بورقيبة السابقين، ليتحول معظمهم إلى معارضة العهد الجديد، ناقمين عليه قبضته القوية. لقد استطاع بن علي إضعاف قوى المعارضة وتمزيق تنظيماتها، وهذا ما تترجمه إلى حد ما نتائج مرشحيها في مختلف المواسم الانتخابات، المحلية والتشريعية والرئاسية، في تونس، وربما تبرره على نحو خاص نجاحات الاقتصاد التونسي في عهد الرئيس بن علي، فذلك هو الربيع الحقيقي لنظام حكمه!



محمد ولد المنى