صادف يوم أول من أمس السبت، 2 أغسطس، الذكرى الثامنة عشرة للغزو والاحتلال الذي اقترفه نظام صدام حسين عام 1990. ويستعيد الكويتيون بمرارة كل عام ذكرى ذلك الغزو الذي شكل مرحلة مفصلية مؤلمة في ذاكرة شعبنا، حيث بتنا في الكويت نؤرخ بمرحلة ما قبل الغزو، وما بعده. كما غيّر الغزو والاحتلال الوضع الاستراتيجي، بشكل جذري، في المنطقة، وجعل الوجود الغربي، والأميركي بالتحديد، أمراً واقعياً ومطلوباً بعد أن كان مرفوضاً بقوة. والحال أن الهواجس والمخاوف الكويتية من العراق بقيت قائمة منذ الثلاثينيات. وقد شكل العراق العامل الأكثر تهديداً للأمن القومي الكويتي والخليجي على الدوام. وجميع الحروب الثلاث التي ضربت المنطقة تؤشر إلى ذلك. فقد كان العراق هو المحدد الرئيسي الذي حارب إيران، وقام بغزو الكويت ورفض الانسحاب منها على رغم جميع الفرص التي أتيحت أمامه، وبعد ذلك رفض التعاون ولم يؤكد للأميركيين، وللعالم، أنه لا يمتلك أسلحة دمار شامل، أو أنه ليست له علاقة مع تنظيم "القاعدة"، كما ظلت الإدارة الأميركية تتهمه. لقد تغيرت اليوم طبيعة التهديد العراقي للكويت ولمنطقة الخليج من غزو واحتلال وابتزاز إلى مخاطر وجود دولة متفككة، ومخاوف من حرب أهلية أو عرقية أو طائفية قد تتحول إلى حاضنة ومُلهمة ومصدِّرة للإرهاب. ووسط خمس حروب مستمرة وطاحنة تدور رحاها معاً على أرض بلاد الرافدين، من حقنا أن نقلق وأن نرى أن الخطر والتهديد العراقي لم يكن حصراً على نظام صدام، فلا يزال موجوداً، وإن تغير شكله ودوره وعمقه. لقد تحول العراق إلى ما يسمى بـ"دولة فاشلة" ترتيبها -حسب الدراسة الأخيرة للدول الفاشلة في العالم- الخامسة من حيث الفشل بين 177 دولة. ومعروف أن من صفات "الدولة الفاشلة" أنها تكون عادة فاقدة للكثير من مزايا ودور الدولة في تأمين الأمن والاستقرار والحريات، وتغرق في صراع المليشيات التي تتغوَّل وتصبح أقوى من الدولة، ولا تعود المكونات والأجزاء بمجموعها تساوي الكل، بل تصبح محافظات يحق لها أن تشكل أقاليم وحتى كيانات مستقلة. وهناك أيضاً مخاطر الدور الخارجي والتدخل في شؤون العراق، وخاصة من الجارتين إيران وتركيا. واليوم، وبعد سنين من كارثة غزو واحتلال الكويت فقد آن الأوان لهواجسنا ومخاوفنا أن تستريح. على أن هناك قضايا كويتية لم تغلق بعد، كملفات الشهداء والأسرى والحدود والتعويضات والديون والمناهج، وكلها بحاجة إلى معالجة جذرية لتطمئننا إلى نوايا النظام العراقي، الذي عليه أن يبادر لبناء الثقة، وإلغاء ثقافة الماضي، وانتهاج ثقافة واقعية بعيدة عن الأطماع والهيمنة، وخاصة أنه لم يكن لجيران العراق -وخاصة الكويت- أي دور في ظلم التاريخ أو جور الجغرافيا، كما يراها العراقيون. وربما يحسن في هذا المقام أن نشير إلى دراسة أعدها مركز البحوث والدراسات الكويتية، عام 2004، بعنوان "منافذ العراق البحرية"، وقد فنّدت ادعاءات العراق بحرمانه من إطلالة على الخليج، مؤكدة أن لديه إطلالة على الخليج العربي بواجهة طولها 70 كلم. ويزيد طول تلك الإطلالة إلى 235 كلم إذا أضيف إليها خور الزبير، والمسافة بين مدخل شط العرب وميناء البصرة 140 كلم، كامتداد للواجهة البحرية المذكورة. كما أن لدى العراق ثلاثة موانئ تجارية على الخليج هي: البصرة، وأم قصر، وخور الزبير، وثلاثة موانئ نفطية هي: ميناء الفاو، وخور العميَّة، والبكر، وبعض هذه الموانئ أعمق من قناة السويس. وليس خافيّاً أن مثل هذه المعلومات المهمة بحاجة للتوزيع والتعميم على العراقيين، ولنبدأ بمثقفي بلاد الرافدين أولاً، والكثير من مثقفينا العرب الآخرين أيضاً. وفي نفس الوقت على الكويت أن تُطمئِن العراق وتؤكد أنها لا تُضمر له العداء، وأن صفحة جديدة يجب أن تفتح بين الطرفين، وتبديد مخاوف العراق من أن الكويت تتآمر عليه، أو تخطط لإبقائه ضعيفاً، أو تصطف في معسكر خصومه، وهي طبعاً مخاوف غير صحيحة، جملة وتفصيلاً. بل إن الأمن القومي الكويتي يبقى مهدداً طالما بقي العراق بؤرة للتوتر والحروب وعدم الاستقرار. والكويت لا تملك أجندة خفية ولا أطماعاً، ولا تتدخل في الشأن العراقي بمناصرة فئة من شعبه على فئة أخرى. كما أن مصلحة الكويت في مساعدة العراق للوقوف على قدميه، والمساهمة في إعادة إعماره. وليس تعيين سفير كويتي لأول مرة منذ الغزو إلا تأكيداً على ذلك الالتزام الإيجابي من الكويت، وهو التزام تشاركها فيه شقيقاتها في دول مجلس التعاون الخليجي. هذه هي ثقافة المستقبل والمصالح والتعايش التي ينبغي تغليبها في إقليم دائم التوتر كإقليمنا، حتى لا نبقى أسرى لهواجس ومخاوف الماضي المؤلم، ونغرق في سجالات تفرِّقنا ولا تجمعنا، أو نغرق نقاش التاريخ وظلم الجغرافيا، لأن ذلك المنطق لن يساعدنا على بناء الثقة بين الشعبين والنظامين.