أميركا والصور النمطية
بفضل ثورة الاتصالات أصبح في مقدور الناس معرفة العالم بطريقة أفضل من ذي قبل. فقد أسهمت القنوات الفضائيات وشبكة الإنترنت والهواتف المحمولة والرسائل الهاتفية القصيرة وسهولة التنقل والسفر على مستوى العالم كله، في تضييق المسافات بين دول العالم إلى حد مذهل. غير أن تدفق المعلومات المستمر عن الشعوب الأخرى، على مدى 24 ساعة في اليوم وسبعة أيام في الأسبوع، لم يثمر بالضرورة عن معرفة حقيقية وعميقة بالآخرين. بل على العكس من ذلك تماماً، بقي سوء الفهم والانطباعات والأفكار الشائهة عن الآخرين، مع رسم صور نمطية جاهزة عنهم، سائداً في كافة المجتمعات تقريباً. وضمن هذا الإطار، لدى غالبية المواطنين الأميركيين فهم تبسيطي غير دقيق عن العالم العربي. وعلى رغم أن الصحافة الأميركية تواظب على تغطية الأزمات التي تمر بها بلدان عربية عديدة مثل العراق وفلسطين، إلا أنها لا تبدي أدنى اهتمام بالحياة اليومية العادية في تلك البلدان. بل الصحيح أن التغطية الإعلامية الأميركية، تهتم أكثر بتغطية الأزمات التي تؤثر على حياة المواطنين الأميركيين وليس العرب. وعلى سبيل المثال، فقد تراجعت مؤخراً التغطية الأميركية للعراق، بسبب التناقص الكبير في عدد القتلى من الجنود الأميركيين. والحقيقة أن معرفة الأميركيين بالعرب محدودة وضئيلة للغاية، على رغم الصور النمطية الجاهزة في مخيلاتهم عنهم.
وفي المقابل، يبدو أن العرب يعرفون الأميركيين أفضل بكثير مما يعرفه الأميركيون عنهم، إلا أن الصورة التي تشكلت في أذهان العرب عن الأميركيين، ليست دقيقة ولا مكتملة بما يكفي. ففي أذهان غالبية العرب الذين لم تسبق لهم زيارة الولايات المتحدة، صورة عن الأميركيين شكلتها أفلام هوليوود والبرامج التلفزيونية الأميركية، والتغطيات الصحفية، مع العلم أن هذه المصادر جميعاً، لا تعطي سوى صورة تقريبية جزئية خادعة عن الحياة الأميركية.
والحقيقة أن الناس لا ينتظرون إلى حين اكتمال المعلومات في أذهانهم، قبل أن يصدروا أحكامهم على الآخرين. وعادة ما يميل الناس إلى لزق معلومات جزئية متفرقة جمعوها عن الآخرين مع بعضها البعض، فيحصلون بذلك على شعور وهمي بمعرفتهم الكاملة للآخرين. وعلى رغم التفاوت بين الصور النمطية الجاهزة عن الآخر من حيث الدقة وعدمها، إلا أن جميع المجتمعات لا تخلو من هذه الصور. يذكر أن الكاتب الصحفي الشهير "والتر ليبرمان"، كان قد لاحظ منذ عام 1922 أن من الاستحالة أن تتوفر معلومات كاملة لأي كائن من كان، عن الأشياء أو العوالم التي تقع خارج نطاق رؤيته وخبرته الشخصية، لكن ومع ذلك فما أشد ميلنا جميعاً إلى تشكيل ما يعرف بالصور الذهنية عن العالم، في سبيل إيجاد معنى ما له. فما أن نسمع بحدث بعيد عنا أياً كان، حتى نحاول تكييفه بطريقة ما، على تلك الصورة التي نرى بها العالم. والمرجح ألا تكون تلك الصور دقيقة، سواء على مستوى التفاصيل، أم على مستوى إطارها العام، إلا أننا وعلى رغم ذلك نحاول إضفاء نوع من الاتساق عليها، حتى نطمئن على كمال فهمنا للعالم ونشعر بالارتياح والرضا عن هذا الفهم. وإنها لمن طبيعة النفس البشرية أن تضع المعلومات الجديدة في إطار الصور النمطية الجاهزة المسبقة، دون الانتباه إلى تفاوت الفهم والنظر للظاهرة الواحدة عند شتى المجتمعات والأمم.
ولنضرب مثالاً لهذا بحركة "حماس" و"حزب الله" اللبناني. فما أشد تفاوت النظر والفهم عند مختلف الشعوب، لما يهدف إليه قادة هذين التنظيمين، وما طبيعة السياسات التي سوف ينفذها هؤلاء القادة في حال تمكنهم من توسيع نطاق سلطاتهم. ولنتخذ من المرشح الرئاسي "الديمقراطي" باراك أوباما مثالاً آخر على هذا. فترشيح "أوباما" للمنصب الرئاسي يعد ظاهرة غير مسبوقة في السياسة الأميركية، لكونه أميركياً إفريقي الأصل، ولا يستبعد فوزه بالمنصب الرئاسي. وهذا ما يدعو شعوب العالم الأخرى كافة، إلى محاولة تكييفه على نحو ما، داخل إطار الصورة النمطية الجاهزة في أذهانهم عن الأميركيين. أما داخل أميركا نفسها، فتسود مشاعر السرور لهذا الاحتمال بين الأميركيين الأفارقة، في حين يرى نظراؤهم البيض في وصول أوباما إلى البيت الأبيض، تهديداً لنمط حياتهم. وضمن هذا الخوف ينظر "المحافظون" إلى "أوباما" على أنه ليبرالي طائش، في حين يأمل غالبية الليبراليين في أن يطبق المرشح "الديمقراطي" السياسات التي تروقهم. على أن الكثيرين في أميركا يتوقعون له أن يجري تغييرات جذرية في السياسات التي انتهجتها إدارة بوش. والكل يحاول تخيل ما يمكن أن يفعله أوباما في حال فوزه بالمنصب الرئاسي، مع العلم أن هذا التخيل مبني في الأساس على التجربة الشخصية وفهم الفرد للعالم. لكن الحقيقة أنه لا أحد يعرف "أوباما" حق المعرفة، ولا أحد يدري ما الذي سيفعله على وجه التحديد. فالناس يُسقطون عليه آمالهم ومخاوفهم استناداً إلى شخصه أو أقواله لا أكثر. وربما يفاجئنا جميعاً بعد وصوله إلى البيت الأبيض!
ولنذكر بهذه المناسبة أن الكثير من الأميركيين كانوا قد صوتوا قبل ثماني سنوات من اليوم، بكثير من الحماس والاقتناع للرئيس جورج بوش، اعتماداً على ما توهموه من معرفة وثيقة به، وعلى ما يمكن أن يفعله من أجلهم حسب اعتقادهم. وهناك من ظن أنه سوف يسير على خطى والده السابقة في البيت الأبيض. إلا أن خيبة الأمل فيه سيطرت اليوم على غالبية الأميركيين، إلى درجة دفعت بعض ألد خصوم الرئيس الأسبق كلينتون، إلى تمني عودته تارة أخرى إلى الرئاسة. والحقيقة أن صور الأميركيين الذهنية عن بوش تغيرت كثيراً اليوم، استناداً إلى ممارسات إدارته خلال سنواتها الثماني الماضية. بيد أن الصور الجديدة التي تشكلت عنه ربما تكون خاطئة هي الأخرى. فهناك من رأى فيه شخصاً هشاً ضعيفاً، انحرف بإرادته وسياسات نائبه ديك تشيني. بينما رأى فيه آخرون شخصاً قوي العزيمة إلا أنه سلك لنفسه طريقاً آخر في الحكم غير الذي سلكه أبوه. والحقيقة أننا لا نزال نجهل من يكون بوش على وجه التحديد، على رغم مضي السنوات الثماني هذه من ولايته!
وكما لاحظ "والتر ليبرمان" من قبل، فإن المجتمعات الكبيرة- مثلما هو عليه حال المجتمع الأميركي- تواجه صعوبة أكبر في التعرف إلى قادتها وفهمهم، بحكم صعوبة مقابلتهم وجهاً لوجه والتعرف إليهم عن كثب، قبل إصدار الحكم عليهم. وهي في ذلك خلافاً للمجتمعات الصغيرة، التي يسهل اللقاء المباشر فيها بين القادة والجماهير الناخبة، على مستوى الصداقات والعلاقات الاجتماعية المشتركة في الأحياء السكنية وخلافه. وبدلاً من هذه الصلة المباشرة، عادة ما تلجأ المجتمعات الكبيرة إلى البدائل الأخرى، مثل التلفزيون والتغطية الإعلامية، حتى تتمكن من تشكيل الصور الذهنية عن قادتها. وعلى رغم أن المرشح "الديمقراطي" قام بجولة واسعة خلال حملته الانتخابية الجارية، بهدف الالتقاء بأكبر عدد ممكن من الناخبين، إلا أن في وسع اللقاءات القصيرة والتعليقات التي أدلى بها في هذه اللقاءات، أن تعزز الصورة النمطية الجاهزة عنه، أكثر مما تعمل على تغييرها. وعلى أية حال، فنحن نأمل هذه المرة أن تلبي بلادنا آمال التغيير التي علقها عليها الكثيرون في الداخل والخارج معاً. غير أنه من الصعب أن نجزم الآن بما يمكن أن تفعله بلادنا غداً.