"الجمهوريون"... مشروب قديم في زجاجة جديدة
أخيراً بدأت قوة الحزب "الجمهوري" الجبارة في التداعي. فمنذ عهد ريجان، وحتى أواخر عام 2005، كان "المحافظون" يتفوقون على التقدميين من أمثالي في كافة السجالات تقريباً، حيث كانوا يمتدحون بأسلوب فصيح مزايا الأسواق الحرة وسحر "اليد الخفية"، في حين صار التقدميون يردون على ذلك بأسلوب متعثر بالحديث عن أهمية القواعد التنظيمية، والاقتصاد المختلط، مدركين حتى قبل أن تخرج الكلمات من أفواههم، بأنها لن تجد آذاناً صاغية. أما الآن فنرى أن "الجمهوريين" أصبحوا- فجأة- من معقودي الألسنة، كما يتبين من أداء "ماكين" المتعثر في حملته الانتخابية. والمصاعب التي يواجهها المرشح "الجمهوري" في انتخابات الرئاسة لا تنبع من التكتيكات التي يتبعها في هذه الحملة، بقدر ما تنبع من التزامه الطويل الأمد بمجموعة من الأفكار التي ثبت فشلها في التطبيق العملي بدءاً من حرب العراق، مروراً بإعصار "كاترينا"، ووصولاً إلى قضايا الاقتصاد والبيئة.
يلاحظ أيضاً أن الرغبة التقليدية لدى "المحافظين" في طرح اختلافاتهم جانباً، عندما يتعلق الأمر بتأييد مرشح "الجمهوريين" في الانتخابات، قد بدأت تضعف هي الأخرى، كما يتبين من الحملة الانتخابية الحالية لـ"ماكين"، والتي امتنعت فيها شخصيات مؤثرة داخل الحزب مثل "رون بول" والزعيم المسيحي الإنجيلي "جيمس دوبسون" عن تأييد المرشح "الجمهوري".
كما يلاحظ كذلك أن أطنان الكتب والمقالات التي اعتاد "المحافظون" على تدبيجها في الهجوم على الليبراليين والليبرالية، قد أصبح يقابلها أعداد أكبر من المجلدات التي تستقصي أخطاء السياسات المحافظة وما الذي تبقى منها.
ما يبدو لي من خلال تأمل ما يقوله كبار المفكرين "المحافظين" هو أن الفكر المحافظ يواجه في الوقت الراهن مأزقاً جوهرياً لن يتمكن من إيجاد حل له خلال المستقبل القريب، ينبع من الحيرة التي يواجهها "الجمهوريون" بين خيار الالتزام بالخطابيات، والسياسات الخاصة بالأسواق الحرة، وتقليص حجم الحكومة، والسياسات الأحادية، والميل للقتال، وبين خيار تأييد قيام القطاع العام بدور أكثر فعالية، والاعتماد على الدبلوماسية، والمؤسسات الدولية، بدلاً من اللجوء الى الحروب والانفرادية في القرار والفعل.
إن الشيء الذي ساهم في تنشيط الحركة المحافظة الحديثة كان هو الاعتقاد بأن الحكومة هي المشكلة، وأن الأسواق الحرة هي الحل، والذي طبقه اليمين في كل مواجهة كل تحد من التحديات المحلية تقريباً من مثل ضمانات التقاعد، والرعاية الصحية، والتعليم، والوظائف، والبيئة وغير ذلك.
ولكن السياسات التي اتبعها "الجمهوريون" بناء على ذلك الاعتقاد فشلت فشلاً ذريعاً في التطبيق العملي، بل إنها أدت في بعض الحالات إلى خلق مشكلات جديدة. ومن الطبيعي بعد الإخفاق الحكومي الذي بدا واضحاً للعيان في مواجهة ومعالجة آثار الإعصار "كاترينا" أن يبدأ الجمهور الأميركي في إدراك أن العداء اليميني للحكومة لم يؤد سوى إلى حكومة غير فعالة سواء في مجال العدالة، أو مجال الزراعة، أو في مجال الرقابة على السلع المستوردة المضرة، وفي قوانين البيئة غير الفعالة، وخصوصاً ما يتعلق بالاحتباس الحراري، بالإضافة بالطبع إلى أزمة الرهن العقاري.
بالإضافة لذلك أدت سياسات خفض الضرائب إلى إضعاف النظام المالي للبلاد، دون أن تؤدي إلى تحسين جوهري في أحوال الغالبية العظمى من المواطنين الأميركيين، كما أدت سياسات بوش الخارجية القائمة على فرض الهيمنة والإصرار على أن أميركا وحدها هي التي لها الحق في شن الحروب الوقائية، وتجاهل الأمم المتحدة، إلى إضعاف الأمن القومي الأميركي، وإلى شن حروب غير ضرورية، مثل حرب العراق الكارثية. إن الصعوبة البالغة التي يواجهها "الجمهوريون" في الوقت الراهن تنبع من عدم قدرتهم على التخلي عن الأفكار والمعتقدات التي جعلتهم ناجحين في الماضي.
ففي كتابهما الجديد الموسوم "الحزب العظيم الجديد" يرى كل من "روس دوثات" و"ريحان سلام" المؤلفين "المحافظين"، أن الوقت قد حان لتجاوز إرث "ريجان" وتجاوز البنية الفكرية الحالية لـ"الجمهوريين". وهما يقدمان في هذا السياق العديد من المقترحات التي يمكن للعديد من التقدميين تأييدها، منها على سبيل المثال الدعوة إلى خطة طموحة نسبياً وأكثر تكلفة للرعاية الصحية، وتقديم دعم وحوافز مادية للوظائف الصغرى، والمزيد من الإنفاق على البنية التحتية. والمؤلفان في الحقيقة يستحقان الثناء بسبب ما أقدما عليه من تنبيه رفاقهم من "المحافظين" إلى خطورة مواصلة السير على الدرب الحالي، والذي يمكن أن يؤدي إلى نقل السجالات والمعارك بينهم وبين "الليبراليين" إلى فضاءات يتمتع فيها الأخيرون بالتفوق.
من ناحيته يحاول "ديفيد فرام" الكاتب السابق لخطب الرئيس بوش، حل هذه المعضلة الجوهرية التي يواجهها "الجمهوريون" في كتابه الذي صدر مؤخراً والموسوم "العودة" من خلال محاولة إمساك العصا من الوسط.
فهو يقول مثلاً إن هناك أشياء لا يستطيع أحد سوى الحكومات إنجازها، وأن على "الجمهوريين" إذا ما أرادوا أن يحظوا بالثقة فيما يتعلق بقدرتهم على إدارة الحكومة، أن يثبتوا أنهم يهتمون بهذه الحكومة بدرجة كافية، غير أنه لا يقدم الكثير من الأفكار المتماسكة التي يمكن أن تؤدي إلى تحسين الأداء الحكومي، بل يعتمد -بشكل كبير- على طائفة الأفكار المألوفة وغير الفعالة مثل تقديم كوبونات الغاز لطلاب المدارس، وإحراج الأمم المتحدة، وما إلى ذلك. وفي رأيي أن العلاج الذي يقدمه "فرام" والمتمثل في صب مشروب قديم في زجاجات جديدة لا يمكن أن يحقق شيئاً لأن المشروب ذاته قد فسد.
تاريخياً كان "الجمهوريون" يعرفون أنفسهم بأنهم مقاومون للتغيير، وكانوا يتلقون الثناء من البعض على ذلك ويتعرضون للعن من قبل آخرين، أما الآن فهُم- بمن فيهم ماكين- يتعرضون للعن إذا ما تغيروا، وإذا لم يتغيروا كذلك!
جريج أنريج
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مدير البرامج في "سنشري فاونديشين" ومؤلف كتاب: محافظون من دون ملابس: لماذا تواصل أفكار اليمين انهيارها"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"