في بعض الأحيان يتمنى المرء لو كان مصوراً فوتوغرافياً. يحدث هذا عادة، عندما لا يجد المرء الكلمات المناسبة لوصف شيء ما، كما حدث معي مؤخراً مثلاً، عندما رأيت نهر "كانجيا" الجليدي الفائق الروعة والجلال الواقع في جزيرة "جرينلاند"، وهو يدفع جبالاً جليدية ضخمة تطاول ناطحات السحاب، بتؤدة ورفق إلى أن تصل إلى مياه المحيط قبالة الساحل الغربي لجزيرة "جرين لاند" حيث تتكسر وتبدأ في الذوبان تدريجياً. ويمكنك وأنت تبحر على متن قارب صيد في هذه المياه، محوطاً بهذه الجبال الثلجية، أن تسمع صوت تكسرها، بل وشهقاتها وتنهداتها التي ترن في أذنيك، وكأنها أصوات احتجاج صاخب على المصير الذي انتهت إليه. خلال تلك الزيارة التي رافقني فيها وزيرة البيئة والطاقة الدنماركية، لم آسف فقط على أنني لم أكن مصوراً، وإنما أسفت أيضاً على أنني لم أكن صحفياً بمجلة "ناشيونال جيوجرافيك". وفي الحقيقة أن تلك الجولة التي قمت بها كي أشاهد- على الطبيعة- آثار التغير المناخي على الغطاء الثلجي لجرينلاند، ولّدت لدي فكرة ظلت تلح عليّ، وهي أن أبناءنا سيغضبون منا غضباً شديداً ذات يوم، لأننا أضفنا حساب مستقبلهم على بطاقتنا الائتمانية، وأضفنا كميات كبيرة للغاية من الغازات المسؤولة عن الاحتباس الحراري، من أجل مصلحة جيلنا فقط، وهو ما سيجعلهم ينفقون جزءاً كبيراً من سنوات نضجهم- وربما كلها- وهم يتعاملون مع التداعيات المناخية التي ستنتج عن إسرافنا. على الرغم من ذلك، فإن كل ما يفعله قادتنا حيال تلك المشكلة الملحة هو القول لأبنائنا بأن طريقة النجاة الوحيدة من هذه المشكلة، هي قيامهم بالحفر في البحر بحثاً عن المزيد من الوقود الأحفوري الملوث للجو. إنه لجنون مطبق في الحقيقة. معظم الناس يفترضون أن العالم سيشعر بتأثيرات التغير المناخي عندما تحدث كارثة كبرى أخرى مثل "كاترينا" ولكن ذلك قد لا يكون صحيحاً بالضرورة كما يقول "مينيك ثورليف روزنج" كبير الجيولوجيين في "متحف الدنمارك الوطني"، وأحد الذين رافقوني في جولتي. ويشرح "روزنج" ما يعنيه فيقول "إن معظم الناس يشعرون بأن تأثيرات التغير المناخي ستصل إليهم عن طريق ساعي بريد" في حين أنها- والكلام لا يزال لروزنج- "ستأتي في صورة زيادة في قيمة فواتير المياه، بسبب تفاقم الجفاف في بعض المناطق، وفي صورة زيادة في قيمة فواتير الطاقة بسبب الارتفاع الهائل في أسعار الوقود الأحفوري بأنواعه، وفي صورة ارتفاع في قيمة بوالص التأمين وأسعار الرهن بسبب الكوارث الناتجة عن سوء الأحوال الجوية التي قد لا يمكن التنبؤ بها مستقبلاً". وتعد "جرينلاند" واحدة من أفضل المناطق التي يمكن رؤية آثار التغير المناخي عليها. فهذه الجزيرة التي تعد الأكبر في العالم، والتي لا يزيد عدد سكانها عن 55 ألف نسمة، والتي تخلو من الصناعات تتأثر أحوال غطائها الثلجي، ودرجات حرارتها، ونسبة ترسيبها، ورياحها، بالتغيرات الجوية العالمية، وتيارات المحيط التي تتجمع عندها. فأي شيء يحدث في الصين أو البرازيل مثلاً، يكون محسوساً في هذه الجزيرة، ونظراً لأن سكانها يعيشون بالقرب من الطبيعة البكر، فإنهم يعتبرون أجهزة قياس متحركة لأي تغيرات مناخية. وخلال وجودي في الجزيرة تعلمت لغة جديدة هنا هي "لغة المناخ". هذه اللغة سهلة للغاية، حيث لا تحتوي سوى على ثلاث عبارات. الأولى: "منذ سنوات قليلة فقط"، كأن يقول لك أحد مثلاً: "منذ سنوات قليلة فقط، كان يمكنك ركوب زلاجة تجرها الكلاب، والانتقال بها لمسافة 40 ميلاً عبر جسر جليدي، حتى تصل إلى جزيرة "ديسكو"، ولكن ما حدث خلال السنوات القليلة الماضية فقط هو أن ارتفاع درجات الحرارة أدى إلى ذوبان هذا الجسر الجليدي، وقطع الطريق المؤدي إلى تلك الجزيرة التي أصبحت معزولة الآن. يقول "كونارد ستيفن" مدير "المعهد التعاوني لبحوث العلوم البيئية" في جامعة كولورادو، والذي يرصد التغيرات المناخية، إن ذوبان الثلوج المكونة للغطاء الثلجي لجزيرة جرينلاند قد ازداد بنسبة 30 في المئة خلال الفترة الواقعة بين 1979 و2007، واشتد بالذات في عام 2007 التي فاقت نسبة الذوبان فيها جميع الأعوام السابقة بما لا يقل عن عشرة في المئة. ويقول "ستيفن" أيضاً "إن كل شيء يحدث في الوقت الراهن بدرجة أسرع بكثير، مما كان معروفاً منذ سنوات قليلة ماضية فقط". الجملة الثانية في لغة المناخ هي "إنني لم أر ذلك من قبل أبداً"، فقد أمطرت السماء في ديسمبر ويناير في "إيليوليسات على الرغم من أنني لم أر شيئاً مثل ذلك من قبل أبداً". يقول "ستيفن" معلقاً على ذلك "منذ عشرين عاماً لو كنت قد قلت لسكان إيليوليسات إن السماء ستمطر في الكريسماس في عام 2007، فمن المؤكد أنهم كانوا سيسخرون من قولي، أما الآن فذلك الأمر قد أصبح حقيقة". أما الجملة الثالثة في هذه اللغة فهي: "حسناً، دائما ما يكون الأمر على هذا النحو، ولكني لم أعد أعرف ما الذي يحدث الآن". فأنماط الجو التقليدية التي تعود عليها سكان جرينلاند من كبار السن وعرفوها طيلة حياتهم، تغيرت بسرعة كبيرة في العديد من المناطق هنا. فالنهر الجليدي الذي كان يغطي التلال القريبة دائماً، اختفى هو الآخر، كما أن حيوان الرنة الذي كنا نراه هنا دائماً في مواسم الصيد الذي كان يفتتح في الثامن من أغسطس من كل عام لم يعد يظهر الآن. ليس من المستغرب إذن أن أحداً لم يعد يعرف ما يحدث الآن، وأن الجميع تقريباً قد أصبحوا يتحدثون بلغة المناخ، التي سيتعلمها أطفالنا أيضاً، خلال فترة قريبة بل وربما أقرب مما نتصور. توماس فريدمان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"