ربما لا يوجد شعب على وجه الأرض يقدس الثورة ومكتسباتها، مثلما يفعل الفرنسيون الذين تفوقوا على الثورات المعروفة براديكاليتها، كونهم أول من أطاح بالنظام الملكي، وأول من نصّب رئيساً منتخباً ليغيروا، ليس الخريطة السياسية الفرنسية فقط، بل ليلهموا أجيالاً من الثوار الراغبين في تغيير الأوضاع وقلبها رأساً على عقب. لكن الثورة كما يعلمنا التاريخ نادراً ما تحافظ على براءتها، بل كثيراً ما تنجرف وراء الأهواء السياسية المتضاربة والمصالح المتباينة لتغرق في دوامة العنف وتتبدد بذلك رومانسية البدايات مفسحة المجال أمام مشاعر الإحباط والمراجعة. هذا المخاض الكبير الذي ميز تشكّل الدولة الفرنسية هو ما يتتبعه المؤرخ وأستاذ التاريخ بجامعة أوكسفرد "روبرت جيلدي"، في كتابه الموسوعي "أبناء الثورة: الفرنسيون بين 1799 و1914". في هذا الكتاب يستعرض المؤلف التحولات الكبرى التي شهدها التاريخ الفرنسي والمراحل المختلفة لتطور الأمة الفرنسية من خلال التركيز، ليس فقط على الجانب السياسي، بل أيضاً الغوص في أعماق المجتمع ملامساً أهم القضايا التي شغلته؛ مثل الكنيسة واللغة والفئات الاجتماعية، فضلاً عن بداية تبلور النزعة المركزية التي سترتبط بفرنسا منذ ذلك الحين وإلى غاية اليوم. ما يلفت الانتباه في فرنسا هو حركيتها الرافضة للاستقرار، وكأنها تبحث، بعد تيه طويل، عن نظام سياسي يعبر عن هويتها التي لم تكن قد تبلورت حتى بعد ما أطاحت الثورة بالنظام الملكي عام 1789. فقد تحولت فرنسا بعد قرن على ثورتها الشهيرة إلى مختبر سياسي ضخم لتجريب مختلف أنواع النظم السياسية، إلى درجة أن المؤرخ يتعب من تعدادها. فقد شهدت ثورة 14 يوليو ولادة الملكية الدستورية تحت عهد الملك سيئ الحظ "لويس السادس عشر"، ليتم إعدامه عام 1793 ويعلن عن قيام الجمهورية الأولى تحت نظام "اليعاقبة" الراديكاليين، فتلا ذلك ما بات يعرف بـ"عهد الإرهاب" الذي لم يدم طويلاً لحسن الحظ. لكن بحلول عام 1799 فاجأ الجنرال "بونابارت" الجميع ونظم أول انقلاب عسكري يشهده التاريخ المعاصر ونصب نفسه الحاكم الأول للدولة الفرنسية، ثم إمبراطوراً بعد ذلك في عام 1804 ليشغل بال أوروبا بغزواته العسكرية طيلة عشر سنوات. غير أن الملكية عادت مجدداً إلى فرنسا بعد انهزام "بونابارت" وانسحاب قواته من أوروبا ليتم تغييرها من أسرة إلى أخرى، وفي الأخير سيتم إلغاؤها تماماً لتنهض على أنقاضها الجمهورية الفرنسية الثانية. وخلافاً لكل التوقعات لم يهدأ المخاض في فرنسا، حيث نصب الرئيس "لويس بونابارت"، الأول الذي سينتخب في التاريخ الأوروبي، إمبراطوراً في مسعى لإحياء مجد عمه الآفل. لكن بعد هزيمة قواته على يد بروسيا في عام 1870 ستحكم باريس ولفترة قصيرة ما يعرف بـ"كومونة باريس" التي اعتبرها ماركس أول ديكتاتورية للبروليتاريا في التاريخ، لتعقبها سيطرة الجمهوريين المعتدلين مرة أخرى وقيام الجمهورية الثالثة. وعلى مدار تلك السنوات التي أعقبت الثورة والأنظمة المتعددة التي تم تجريبها، كانت فرنسا في الحقيقة بصدد التصالح مع التداعيات التي خلفتها الثورة في نفوس الفرنسيين بعدما قلبت النظام وزعزعت الاستقرار والتغلب على آثارها الممتدة إلى جميع البلاد الأوروبية. وبحسب الكاتب، فإن الثورة غيرت الكثير في مزاج الفرنسيين، وأحدثت شرخاً عميقاً في المجتمع ظل ملازماً للأجيال الخمسة التي أعقبت الثورة الممتدة من 1789 إلى 1914، لينقسم الفرنسيون إلى معسكرين يسعى كل منهما إلى فرض سيطرته وتبرير شرعيته. ولم يحسم الصراع بين الطرفين إلا بعدما توحدا في إطار هوية وطنية وسياسة جامعة فرضتها تجربة الحرب العالمية الأولى عام 1914، حيث كانت تلك اللحظة بمثابة خروج حقيقي من حالة التخبط التي تملكت فرنسا لمدة طويلة ليلتفوا حول خطر كان يهدد الوجود الفرنسي ذاته. فمن جهة ظهر المعسكر الثوري الذي أعلى سلطة العقل ومهدت له التحولات الفكرية التي كانت جارية في أوروبا، لاسيما عصر الأنوار الذي احتفى بالإنسان وقيم الحرية والمساواة وسيادة الشعب. غير أن قيم العقل ومناهضة الإقطاع والكنيسة، ولدت استبداد الجماهير التي ارتكبت العديد من التجاوزات وصلت حد القتل الجماعي والتطرف الثوري، لتصل إلى مرحلة الحرب الشاملة على الدول المجاورة والبعيدة على حد سواء في عهد "بونابارت". ومن جهة أخرى كانت تتنازع المجتمع الفرنسي فئة مناوئة للتطورات الجديدة خاضت معارك مريرة على مدى قرن من الزمن لاستعادة التراتبية الاجتماعية القديمة، وبعث الملكية والكنيسة الكاثوليكية من أنقاضهما. هذه المعركة التي لم تمر دون انتهاكاتها الخاصة كان أبرزها مناهضة السامية التي أسفرت عن وجهها القبيح من خلال أحداث "درايفوس" العنصرية سنة 1890. وكما يقول المؤلف، "كان التحدي الأكبر بالنسبة لفرنسا خلال القرن التاسع عشر، هو ما إذا كانت الأطراف المناوئة لبعضها البعض من الجيل نفسه، تستطيع العثور على أرضية مشتركة لبناء توافق سياسي وتجاوز الصراعات التي أورثتها لهم الثورة". لكن في القلب من تاريخ الثورة الفرنسية وفي خضم العنف الذي تلاها، كانت الأسئلة الجوهرية التي حركت الفرنسيين في كل خطوة من خطواتهم: ماذا يعني فصل الكنسية عن الدولة في الواقع؟ وما الدور الذي يتعين على الدولة لعبه لبلورة هوية مشتركة؟ زهير الكساب الكتاب: أبناء الثورة: الفرنسيون بين 1799 و1914 المؤلف: روبرت جيلدي الناشر: ألين لاين تاريخ النشر: يوليو 2008