خلال حديثك، ولو كان حديثاً عابراً، مع يوسف شاهين ترى بوضوح خاصيتين في شخصيته: هستيريا الإبداع، وإحساسه بالظلم الاجتماعي وضرورة مقاومته. تقابلت مع يوسف شاهين مرتين، وبالصدفة البحتة، الأولى في مطار شارل ديجول في باريس، في انتظار الطائرة المتجهة إلى القاهرة، كان ذلك في سنة 2001. أما المرة الثانية فكانت على أبواب دار الأوبرا المصرية، وبعد المقابلة الأولى بحوالي خمس سنوات. أنا إذن لم أكن من أصدقائه أو حتى من معارفه المقربين، لكن المقابلتين العابرتين تركتا فيّ أثراً كبيراً، ربما كنا على انفراد وكان الحديث، رغم أنه غير مخطط له، إلا أنه لم يكن بالمرة غير عابر بل متشعب وعميق. في المقابلة الأولى في مطار شارل ديجول، لمحته بملابس غاية في "الكاجوال"، ولدهشتي كان وحده، كان البعض ينظر إليه ويتهامسون، وكان يبدو عليه أنه في عالم آخر. كنت أقرأ كتاباً بالفرنسية، ولما وضعته جانباً نظر إلى العنوان وكان هذا بداية الحديث، وبادر على الفور بتصحيح إحدى معلوماتي الخاطئة عنه، فقد كنت أربطه دائماً بالثقافة الفرنسية، سواء بطريقة لبسه أو بسبب وجودنا نحن الاثنين في مطار باريس محاطين بكل مظاهر هذه الحضارة. أفهمني أن معظم دراسته كانت في الولايات المتحدة، وأن الثقافة الفرنسية كانت لسنوات قليلة جداً في مدرسة سان مارك بالإسكندرية. لكن يبدو أن هذه الثقافة الفرنسية رغم قصر مدتها، تركت أثراً عميقاً في توجهاته، فعندما عرف أنني قادم من مدينة مونتريال، بدأت أسئلته تنهمر عن الواقع الثقافي وخاصة الفن في الجزء الناطق بالفرنسية من كندا. تكلمنا عن الإنتاج السينمائي في مقاطعة كيبيك كثيراً، وكان اهتمامه أساساً عن قوة هذا الإنتاج رغم صغر حجمه وحتى قلة موارده نسبياً، لكنه أصبح معروفاً عالمياً، وذكر لي فيلم "نهاية الإمبراطورية الأميركية"، وكيف أنه بموارد ضئيلة جداً استطاع أن يفرض نفسه بسبب موضوعه، والطريقة التلقائية في أداء ممثليه. والحقيقة أن موضوع الإبداع والقدرة عليه، ولو حتى بطريقة تصدم الآخرين، كان هو مفتاح شخصية شاهين كما رأيتها حينئذٍ، كان حماسه قوياً كأنه مراهق يكتشف حقيقته لأول مرة ويجتهد لإقناعك بها، وكانت كلماته تندفع بقوة كالشلال الذي لا يمكن إيقافه، كان حديث من القلب إلى القلب، وشعرت كأنني قابلت شاهين قبل ذلك مرات ومرات. المقابلة الثانية كانت على أعتاب دار الأوبرا المصرية في القاهرة، كان، ولدهشتي أيضاً، وحيداً، وكان ملبسه مختلفاً، فالمكان يفرض عليك زياً معيناً (الجاكت والكرافته)، لكنه لم يكن "شيك" بمعايير دار الأوبرا. ترددت في أن أقطع عليه خلوته، لكن كانت زوجتي في منتهى الحماس للتعرف عليه وسؤاله بعض الأسئلة الفنية، وشجعتني ابتسامته على الخروج من ترددي والتوجه إليه. لم يتذكرني بالمرة، على الأقل في بادئ الأمر، لكن الحديث عن السينما الفرنسية خارج فرنسا، ومقاطعة كيبيك التي تجمع بعض سمات المجتمع الأوروبي والمجتمع الأميركي، أعاد الذاكرة، رغم أنه لم يستطع أن يتذكر مكان مقابلتنا، قالها بحسرة لأن المكان، كما أضاف، يلعب دوراً أساسياً في أعماله. ثم أضاف: "أنا المرة اللي فاتت إتكلمت كتير عن أعمالي ونفسي، المرة ديه عاوز أسمع منك". وبمجرد ما ذكرت أنني أدرس العلوم السياسية بدأ حديثه ينهمر من جديد، وكان مزيجاً من الاحتجاج وخيبة الأمل بالنسبة للوضع السياسي في مصر، وحتى في المنطقة العربية بأسرها، إن لم يكن في العالم ككل. لكن الحديث انصب على أزمة النظام السياسي في مصر، وكيف أنه قاطع انتخابات الرئاسة، لأن النتيجة معروفة مقدماً، وهذه المقاطعة هي وسيلته للاعتراض والاحتجاج، لكن كانت هناك خيبة الأمل أيضاً لأن معظم زملائه الفنانين لا يشعرون بأزمة هذا النظام. أعادني كلامه الى بعض أفلامه، مثل "الأرض" أو "صراع في الوادي"، والتي عكست تداعيات الظلم الاجتماعي وأثرها على انهيار النظام السياسي. تواعدنا على أن يأتي للحديث في الجامعة الأميركية بالقاهرة، وكان شرطه الوحيد أن يشترك في الدعوة الطلاب أنفسهم، لكنه رحل قبل أن يتم مشروعي في دعوته.