أفغانستان...الجذور التاريخية للعنف
هناك في التاريخ القديم كما في التاريخ الحديث ثمة أمم لا تستطيع أن تعيش إلا في دوامة العنف والحروب والصراعات، فهي ما أن تنتهي من حرب إلا وتبحث عن أخرى، وما أن تتخلص من عدو إلا وتخترع آخر، فتبدو كما لو أنها وجدت لأداء دور دموي.
وقد يقول قائل إن بعضاً من هذه الأمم تملك خيارات الهروب من العنف، أو بعبارة أخرى أن الحروب تُفرض عليها فرضاً، إما بسبب التنافس على موقعها الجغرافي أو قيمتها الاستراتيجية، وإما بسبب تغير ما في أنماط العلاقات الدولية، أو بسبب صراعات داخلية لا شأن للقوى الخارجية بها.
ومثل هذا القول صحيح! لكن الصحيح أيضاً هو أن تلك الأمم كثيراً ما تُمنح فرصاً على طبق من ذهب لنيل السلام، إلا أنها تكابر وتعاند برؤية قاصرة فتقود نفسها إلى حتفها بغباء.
وربما لا يذكر لنا التاريخ بلداً في العالم يجسد هذه الحالة أفضل من أفغانستان التي يعتبر تاريخها عبارة عن سلسلة من الأحداث العنيفة المتلاحقة، بل التي ما أن تنتهي من عدو وتخطو نحو السلام إلا وتتوهم وجود عدو جديد يتربص بها، فتجبر كل إمكانياتها المتهالكة لمحاربة هذا العدو. وما أطلقه بعض المسؤولين الأفغان من تصريحات في الشهر الماضي ضد الهند وباكستان معاً في أعقاب استهداف السفارة الهندية في كابول بتفجير انتحاري، واتهام الدولتين بنقل خلافاتهما إلى الأرض الأفغانية، إلا دليل على صحة ما نقول. ذلك أنه إذا كانت الأصابع الباكستانية معروف عنها تورطها في الشأن الأفغاني منذ السبعينيات، فإنه ليس من مصلحة نيودلهي الإقدام على شيء مماثل، بل إن الهنود كانوا في مقدمة من عمل من أجل السلام والاستقرار والتنمية في أفغانستان بمجرد سقوط نظام "طالبان" الأرعن.
ويخطئ كثيراً من يعتقد أن بدايات العنف والحروب في أفغانستان بدأت مع انقلاب الجنرال داوود خان ضد النظام الملكي عام 1973، أو مع الانقلاب الشيوعي ضد الأخير عام 1978، أو مع التدخل العسكري السوفييتي في عام 1979، أو مع ميلاد حركة الجهاد بدعم غربي- عربي- إسلامي انطلاقاً من باكستان؛ ذلك أن الصراعات الدموية في هذه البلاد سابقة لكل هذه الأحداث بقرون طويلة، بل تعود إلى الحقب السحيقة لفترة ما قبل ميلاد السيد المسيح، وتحديداً إلى حقبة الممالك البلخية- الهندية- الفارسية. لكننا سنتجاوز العديد من الفترات وننتقل مباشرة إلى حقبة الفتح العربي لأفغانستان في عام 642 والذي صاحبه العنف من جهة الغرب- أي من بلاد فارس- كنتيجة لتحرش الفاتحين بالصينيين الذين كانوا حتى ذلك التاريخ أصحاب النفوذ والقرار في أفغانستان، بما في ذلك أصحاب قرار تعيين أمراء المناطق أو من كان يُطلق عليهم "شاهي". والجدير بالذكر هنا أن العنف والصراعات استمرت طويلاً؛ لأن الأمور لم تحسم للعرب في الولايات الجنوبية والشرقية التي ظلت مستقلة أو تابعة لممالك مختلفة إلى حين سقوطها في يد الإمبراطورية الغزنوية في عام 998. ورغم أن سلاطين الأخيرة ابتداء من السلطان محمود الغزنوي حاولوا إقامة بيئة سلام من أجل تحويل أفغانستان إلى قاعدة للعلوم ومركز حضاري، فإن جهودهم فشلت لأسباب مختلفة.
الحقبة الدموية التالية في التاريخ الأفغاني بدأت في حدود عام 1200، حينما قاد جنكيز خان الغزو المغولي لهذه البلاد، فدمر مدنها وحواضرها تدميراً كاملاً وأعمل في شعوبها ذبحاً وقتلاً، ولكن في هذه الحقبة أيضاً ظهرت بوادر سلام واستقرار لم تستغل، وذلك حينما توفي جنكيز خان في عام 1227 وبرزت سلالة تيمورلنك التي انحدر منها الإمبراطور "بابر" صاحب الرؤية البعيدة في تحويل بلاد الأفغان إلى دولة قوية آمنة في آسيا، غير أن الانقسامات الداخلية حالت دون تحقيق مثل هذا الهدف، بل أدت أيضاً إلى انقسام أفغانستان ما بين القرنين 16 و18 إلى قسمين: قسم شمالي يحكمه الأوزبك ويخضع للدولة الصفوية الفارسية، وقسم شرقي يحكمه المغول والأمراء البشتون المحليون.
وفي عام 1706 قام الأفغان البشتون بقيادة "مير واعظ خان هوتاك" بالانتفاضة ضد الحكم الفارسي الصفوي، وهو ما أدى ليس إلى طرد الفرس وتولي "محمود هوتاكي" (ابن مير واعظ خان) مقاليد السلطة فقط، وإنما أيضاً إلى هزيمة الفرس في معركة "غولنباد" واستيلاء الأفغان على أصفهان في عام 1722.
تميز حكم "محمود هوتاكي" بالرعب والعنف، فدفع الثمن من حياته قتلاً على يد أحد أفراد قواته، غير أن هذا الحدث جاء بعد أن كان السلطان محمود قد نصّب أشرف خان كزعيم على أفغانستان، وتوصل إلى معاهدة سلام مع الدولة العثمانية في عام 1727، وهي المعاهدة التي لم تعش طويلاً لأن ملك الفرس "نادر شاه" قام في عام 1728 بحملة عسكرية لتحرير أراضي فارس من حلفاء العثمانيين البشتون، حيث تمكن من هزيمتهم في موقعة دامغان عام 1729، إلى ما سبق نجح نادر شاه في قتل أشرف خان وفتح قندهار واحتلال غازني ولاهور وضمهما
إلى ممتلكاته.
بوفاة الملك نادر شاه في عام 1747، آلت السلطة في أفغانستان إلى الأسرة الدورانية ابتداء من مؤسسها بل مؤسس أفغانستان الحديثة "الشاه أحمد دوراني" الذي تم انتخابه في تجمع لزعماء القبائل الأفغانية "لويا جيرغا" في عام 1747. وقد عُرف الشاه أحمد باللجوء إلى المساومات المؤدية إلى التسويات والمصالحات وحصر الخلافات في أضيق نطاق، الأمر الذي ساهم كثيراً في استتباب الأمور له وامتداد حدود دولته من مشهد في الغرب إلى كشمير ودلهي في الشرق، ومن بحر قزوين في الشمال إلى بحر العرب في الجنوب، ويمكن القول إنه باستثناء تسعة أشهر في عام 1929، كان كل حكام أفغانستان حتى قيام الانقلاب الشيوعي في عام 1978 من الأسرة الدورانية البشتونية ومن الفرع المعروف بالعبدلي.
ترجع بداية تصادم النفوذ الغربي في أفغانستان إلى أوائل القرن 19، وذلك حينما بدأت المخاوف تساور الإنجليز من تعاظم نفوذ الروس القياصرة في إيران وآسيا الوسطى، وهذا ما أدى في نهاية المطاف إلى حصار الإنجليز لمدينة هيرات ما بين 1837 و1838 ووقوع حربين بين الأفغان والإنجليز: الأولى دارت في الفترة ما بين 1839 و1842 وأدت إلى هزيمة القوات البريطانية! أما الثانية فدارت ما بين عامي 1878 و 1880 وكان سببها رفض الملك الأفغاني "شير علي" قبول سفارة بريطانية أو ممثلين للإنجليز على أراضيه، وهو ما أدى إلى إزاحته لصالح الشاه عبدالرحمن الملقب بالأمير الحديدي الذي لئن لم ترض سياساته تجاه الإنجليز طائفة واسعة من الأفغان، فإنه تمكن لأول مرة من انتزاع اعتراف رسمي من الإنجليز والروس معاً بسيادته وحدود دولته- رغم تعقيدات الأخيرة.
وقد تجلى عدم رضا بعض الأفغان حيال سياسات الشاه عبدالرحمن الخارجية في قيام أحد أفراد الأسرة المالكة باغتيال ابنه وخليفته الشاه حبيب الله في عام 1919. وبرحيل الأخير جاء الشاه أمان الله الذي عُرف عهده بنشوب الحرب الأنجلو-أفغانية الثالثة في عام 1919 وتوقيع معاهدة روالبندي للسلام بين الأفغان وإمبراطورية الهند البريطانية في العام ذاته، بل تميز عهده أيضاً بتوجيهات إصلاحية على النمط الأتاتوركي، ولاسيما في أعقاب قيامه برحلة إلى أوروبا في عام 1927، وهو ما لم يعجب المتزمتين داخل الأسرة الحاكمة التي قام أحد أفرادها في عام 1929 باغتيال الشاه أمان الله لتنتقل السلطة على إثر ذلك إلى ابن عم الأخير "الشاه محمد نادر خان" ولتتباطأ عملية الإصلاح والتحديث. وفي عام 1933 قام طالب أفغاني باغتيال الشاه محمد نادر خان، وقيل وقتها إن الحادث مجرد انتقام من ذوي الأفكار المتشددة في المجتمع. ومهما كان التفسير، فإن هذا الحادث وضع أفغانستان على طريق جديد، إذ أتاح للملك محمد ظاهر شاه تولي العرش ليستمر حكمه من عام 1933 وحتى انقلاب ابن عمه محمد داوود خان عليه في عام 1973، ولتشهد بلاد الأفغان في عهده أطول فترات الهدوء والسلام في تاريخها المعاصر، بل وأيضاً جملة من الخطوات التحديثية كإقامة برلمان منتخب والسماح للأحزاب السياسية وكتابة دستور عصري للبلاد ومنح بعض الحقوق للمرأة الأفغانية.