ما بعد أولمرت
أسئلة عدة طُرحت بعد إعلان إيهود أولمرت استقالته المستقبلية بعدم ترشيح نفسه في الانتخابات الداخلية على رئاسة حزب "كاديما" والمقررة في السابع عشر من الشهر المقبل، السؤال الأهم يتصل بالسبب في إثارة زوبعة التحقيقات مع الرجل حول شبهة مخالفات قديمة لا نعرف بعد إذا كانت مجريات التحقيق ستثبتها أو تنفيها؟ هذا السؤال هو الأهم بالنسبة لنا في العالم العربي لما تحمله إجابته من مؤشرات حول عملية السلام حاضراً ومستقبلاً.
لقد كان أولمرت نفسه أول من أجاب على هذا السؤال في بداية إثارة الشبهات وتسريبها إلى الصحافة قبل انعقاد مؤتمر "أنابوليس" للسلام تحت رعاية أميركية. فلقد أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي أنه ماضٍ في خطته للتفاوض مع السلطة الفلسطينية للتوصل إلى حل سلمي يرتكز على رؤية إقامة الدولتين، على الرغم من محاولات البعض عرقلة خطته بإثارة الشكوك والشبهات حول استقامته. إذن كان أولمرت منذ البداية يعتقد أن الدافع في إثارة الزوبعة متصل برغبة "اليمين" الإسرائيلي و"اليمين" الصهيوني في الولايات المتحدة في وقف عملية التفاوض وإنهاء الحديث عن إقامة دولة فلسطينية.
وفي الحقيقة، فإنني كمراقب للساحة الإسرائيلية أميل بشدة لقبول هذا السبب، وإذا عدنا بالذاكرة إلى ما قبل عام 2006 وفوز حزب "كاديما" حديث العهد بفرصة الحكم، لاكتشفنا أن هذا الحزب، بكوادره الأساسية وزعامته الممثلة في شارون وأولمرت وليفني، ليس سوى جناح منشق عن حزب "ليكود". أما السبب في الانشقاق فيرجع إلى فشل شارون زعيم "الليكود" آنذاك -قبل الانشقاق- في مواجهة غالبية أعضاء اللجنة المركزية لـ"اليكود" والذين تكتلوا حول شعارهم القديم تحت قيادة بنيامين نتنياهو، وهو شعار "بين النهر والبحر لا مكان إلا لدولة واحدة وهي إسرائيل"، والمقصود هنا نهر الأردن والبحر المتوسط.
لقد عانى شارون ضروباً من المعارضة الداخلية عندما أعلن قبوله رؤية الرئيس بوش للحل القائم على وجود دولتين، وصلت إلى الإهانة الشخصية بتوجيه ألفاظ تنعته بالخيانة والتفريط في الأيديولوجية الصهيونية في اجتماعات اللجنة المركزية. وكانت اللطمة لا تحتمل في آخر اجتماع للجنة حضره شارون، وكان مذاعاً على شاشات التلفزيون الإسرائيلي. لقد تابعت تلك الجلسة وذهلت عندما وقف شارون ليتحدث، فقد تصاعدت الشتائم في وجهه، وعندما بدأت شفتاه تتحركان بالكلام لم نسمع له صوتاً بينما صيحات الأعضاء المستنكرة له تتصاعد. بعد دقائق تبين أن شخصاً قام بقطع الكهرباء عن الميكرفون ليحرم رئيس الوزراء ورئيس "ليكود" من التعبير عن رأيه السياسي، ولم يكن أمام شارون ومعه أولمرت وليفني سوى التوصل إلى استنتاج قاطع. لقد تبين أن الطرق السياسية قد افترقت وما عادوا يستطيعون البقاء داخل "ليكود" الذي تسيطر عليه لجنة مركزية يمينية أيديولوجية متشنجة.
من هنا حدث الانشقاق وظهر حزب "كاديما" ببرنامج تتقدمه فكرة الحل السياسي مع الفلسطينيين على أساس رؤية الدولتين. وإذا كانت غالبية الناخبين قد منحت "كاديما" بزعامة أولمرت -بعد دخول شارون في غيبوبة- فرصة الحكم، فإن "اليمين" الرافض لموقف "كاديما" ما كان له أن يستكين. لقد تم البحث في تاريخ أولمرت المسكوت عنه طالما كان الرجل داخل حظيرة "اليمين" وفجرت الزوبعة التي أرغمت الرجل على الاستقالة. ما يهمنا -نحن العرب- هو أن اعتراض طريق التسوية قد حدث بالاغتيال المعنوي لأولمرت كما سبق باغتيال رابين عام 1995.