صفقة تاريخية أم حرب كارثية؟
إن استمرار المماطلة الإيرانية وشراء الوقت والتسويف في وجه الإلحاح الدولي، والضغط والتهديد بفرض حزمة جديدة من العقوبات ضد طهران، وتهديدُها مجدداً بإغلاق مضيق هرمز، وتجربة صواريخ جديدة، كل ذلك لاشك يعيد إلى المنطقة أجواء الحرب والتصعيد بعد مرحلة قصيرة من التهدئة والاعتدال والانفتاح الأميركيين، وإن كانت، في كل الأحوال، تهدئة لم تعمّر طويلاً. ولكن في ظل ما قد يتردد من تحضير لضربة عسكرية، لا تزال هناك فرصة لصفقة ما، ونحن في الطرف المقابل نتقلّب بين هذين الخيارين.
ولو تأملنا فإن زيارة الرئيس السوري بشار الأسد، الحليف الاستراتيجي العربي لإيران الفارسية، والعضو المهم في ما تطلق عليه واشنطن "محور التشدد" الذي تقوده طهران -ويضم في عضويته سوريا و"حزب الله" و"حماس" في شرق أوسط واشنطن الواسع- لا يمكن أن تُفهم سوى في إطار التطورات المتلاحقة بين الخيارين السابقين. أي في سياق التجاذب حول تصاعد أزمة الملف النووي الإيراني، وحراك مسار المفاوضات الثنائية السورية-الإسرائيلية، التي تُقلق الإيرانيين. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، المد والجزر والتقارب والانفتاح الأميركي-الإيراني الذي يتبعه تباعد، مع عدم إغفال أن إيران تبقى الضلع الوحيد المتبقي من "محور الشر" الذي تفكك.
على الجبهة الأولى تتدافع مشاهد التباين، و"استهداف" إيران بسبب الملف النووي الإيراني، والإصرار على حقها في تخصيب اليورانيوم لامتلاك الطاقة النووية لأغراض سلمية كما تؤكد طهران على الدوام. حيث تحول هذا الملف في الأشهر الأخيرة من إدارة الرئيس بوش إلى القضية الأولى في الشأن الخارجي لتشابكها مع الملفات الأخرى المعقدة في الشرق الأوسط من العراق، وعملية السلام، ولبنان، والأمن الخليجي، وأمن الطاقة.
ولاشك أن إيران قلقة من مسار المفاوضات غير المباشرة السورية-الإسرائيلية، بوساطة تركية، وتسريبات عن إمكانية التوصل إلى حل في المفاوضات حول الجولان، وفك التحالف الاستراتيجي الإيراني-السوري كعربون للتسوية التي تستفيد منها سوريا على نحو تستعيد به جولانها سلمياً، وتكسر جدار العزلة الذي يطوقها منذ الغزو الأميركي للعراق، وتالياً اتهامات واشنطن المتكررة لدمشق بعدم إمساك الحدود، والمساعدة في عبور المقاتلين العرب إلى العراق عبر أراضيها.
والحال أن هناك مخاوف وشكوكاً عند الحليفين الاستراتيجيين السوري والإيراني من مسار التفاوض والانفتاح على خصميهما. فالتفاوض السوري-الإسرائيلي يقلق إيران كثيراً إذا كان الثمن كسر وفك التحالف، وانتزاع سوريا من الحضن الإيراني. والسوريون قلقون من شيئين: التقارب الإيراني-الأميركي بصفقة محتملة، وإن تبدو وكأنها قد تراجعت في ظل الشحن الكبير ولغة التصعيد والوعيد الصاخبة والتهديد بفرض المزيد من العقوبات وسيناريوهات حرب كارثية بكل معنى الكلمة، إذا فشلت المفاوضات. وقد يكون ثمن الصفقة إنهاء التحالف السوري-الإيراني المصلحي، من الطرف الآخر. أما الأمر الثاني الذي يخشاه السوريون فهو عمل عسكري كبير ضد إيران قد تكون سوريا إحدى ضحاياه، في المحصلة النهائية.
ويبقى سؤال المُحفز الحقيقي للاهتمام الإسرائيلي بالتفاوض مع سوريا في هذا الوقت بدل الضائع من إدارة الرئيس بوش التي توصف بـ"البطة العرجاء" وأولمرت "البطة الميتة" الذي ستنهي حياته السياسية بعد شهرين عندما ينتخب حزب "كاديما" زعيماً جديداً له، سواء كان "ليفني" المعتدلة نوعاً ما، أو شاؤول موفاز الإيراني المولد، أو حتى عودة "نتانياهو" مرة أخرى بانتخابات مبكرة، وكلها احتمالات ستكون لها انعكاسات على الملف النووي الإيراني، ومسار التفاوض بين السوريين والإسرائيليين، والأميركيين والإيرانيين. وهكذا تضرب إسرائيل عصفورين بحجر واحد. أولاً، تفصل سوريا عن إيران، وثانياً تضعف "حزب الله" بحرمانه من الدعم السوري. وبذلك تحترق ورقتان مهمتان من أوراق قوة طهران. ومع حصار وعزل "حماس" في غزة تكون معظم أوراق قوة إيران في طريقها للتحييد. ومن الواضح أن واشنطن وتل أبيب والدول العربية تريد أن تعود سوريا للحضن الطبيعي العربي. وتخشى طهران من خسارة حليفها الاستراتيجي الذي سيكون ككرة نار منحدرة تحرق معها أوراق قوتها الأخرى، مما سيفقد إيران أوراق قوتها المتعددة التي أكسبتها قدرة على التمدد في المنطقة ومقارعة مشروع واشنطن المتهاوي. ولئن كانت طهران تنتصر حتى الآن بالنقاط في جولات المواجهة مع حلفائها في مواجهة المشروع الأميركي المناوئ، إلا أن ذلك يتم بتكلفة كبيرة، وعلى حساب أولوياتها المعكوسة، وفي سياق وضع اقتصادي متردٍّ ببطالة وتضخم كبيرين، و14 مليون إيراني يعيشون دون خط الفقر.
وحسب الاستراتيجية الأميركية الإسرائيلية هذه، فإن تحييد أوراق إيران سيكون محفزاً لها لتكون أكثر مرونة، وتقبل بسلة الحوافز المقدمة لها من الدول الكبرى. ولكنَّ دون ذلك الكثير من العقبات، والأسئلة، من قبيل: هل هناك حقاً جدية في تنازل إسرائيلي عن الجولان عبر صفقة تساعد على إضعاف إيران وقبولها بوقف التخصيب مقابل حوافز؟
والأهم: هل سوريا مستعدة لمقايضة تحالفها الاستراتيجي مقابل صفقة ما؟ وما الذي سيحدث لدورها في لبنان؟ وماذا عن فقدان تحالفها مع "حزب الله"، والملف اللبناني وحلفائها هناك؟ ثم هل ستكون أميركا راضية عن تلك الصفقة؟ ومع تغيير الحرس في تل أبيب، ماذا لو أتى نتانياهو وقلب الطاولة وسحب الصفقة، وأصر على الضربة؟ وما هو رأي واشنطن المنصرفة عن العالم بانتخابات رئاسية هي الأهم والأكثر إثارة وتسييساً؟
ما يمكن قوله هو أن الأشهر الثلاثة القادمة أشهر مفصلية بالنسبة للمنطقة. والإجابة عن هذه الأسئلة ستحدد ليس فقط مصير أوراق قوة إيران ومستقبل "محور التشدد"، ولكن سترسم أيضاً مستقبل المنطقة بأسرها، وهل هي في طريقها إلى صفقات تاريخية أم إلى حرب كارثية؟