انتظره الموت... وهو لم ينتظر!
انطفأ محمود درويش في قبضة المرض، فاشتعلت صورته في قلوبنا، لكن شيئاً ما انطفأ فينا أيضاً. فلسطين التي في وجداننا كان هو وجدان الوجدان فيها، لا نستطيع أن نتخيلها من دونه، ولا أن نتخيّله من دونها، كان شاعرها وكانت ملهمته، عولمته وعولمها، أنسنت شعره وأنسن قضيتها. كانت فلسطين، بوابته إلى العالم، حتى أنها كلما غابت عن كلماته ازداد العالم تذكراً لفلسطينيته، تماهى بمعاناتها والتصقت بمعاناته.
"لا تسقطوا غصن الزيتون من يدي"، عبارة ياسر عرفات على منبر الأمم المتحدة تُنسب إلى محمود درويش، إعلان الدولة الفلسطينية خرج من دم قلمه، لكنه لم يكن سياسياً، كان الشاعر، بكل ما يعني ذلك من تقليد وحداثة مجتمعين في ذات واحدة، ولأنه لم يكن سياسياً لم يقتنع بـ"سلام أوسلو"، ولأنه شاعر ابتعد عن حفلة الترويج للخدعة. وفي احتفالية التوقيع في حديقة البيت الأبيض لم يكن صعباً استنتاج أو استشعار غيابه، ولم تظهر بصمته في الخطاب الهش الذي ألقاه "أبوعمار"، قياساً إلى الخطاب الفذ الذي ألقاه اسحق رابين. وقالت النكتة يومها، رداً على السؤال أين محمود درويش، إنه كان منشغلاً بإعداد خطاب رابين. كان محمود يعشق التنكيت ولا يستطيع تمضية دقائق مع مجالسيه من دون أن يستفز قهقهاتهم، كان يحب الحياة بشفافية خالصة ويعكسها في شعره بحساسية وبساطة لا متناهيتين.
أمسيته الأخيرة في رام الله، قبل شهر من رحيله، كانت أشبه بوداع غير معلن، كان هو عادياً كما في كل مرة، وكان محبوه ينصتون كما لو أنهم يصغون إلى صلاة تتخللها وصلات على العود. حين يُسترجع الشريط ومحمود يلقي قصيدة "لاعب النرد" نتيقن أنه كان يخبر الجميع بأن المصير بات وشيكاً، وأنهم موجودون في "حضرة الغياب"، لكنهم، لكننا، لا نصدق. لذا يتابع بقصيدة "السيناريو" حيث يقع هو وعدوّه في الفخ، "القاتل والقتيل في حفرة واحدة"، "الحفرة/القبر"، وعلى كلٍ منهما أن ينجو بنفسه من دون أن ينقذ الآخر. كيف ذلك، وما هو السيناريو المتوقع؟ الشاعر يسأل، ثم يجيب بأنه يترك الأمر لشاعر آخر ليجد المخرج. لـ"شاعر آخر"؟ لم يكن هناك أكثر وضوحاً من هذا الوداع، من تلك الوصية، فالمأزق يتطلب "شاعراً" وليس سياسياً.
بدا محمود درويش في تلك الأمسية كما لو أنه يقود رثاءه بنفسه، هو الذي رثى أبطال القضية، كان يكره أن يموتوا لكنه كان يخلدهم. وفي رثاء خليل الوزير "أبوجهاد"، أطلق تلك الكلمة التي بقيت في أذهان الفلسطينيين والإسرائيليين عن "خوف الغزاة من الذاكرة". قاد رثاءه بنفسه كأنه يوصي بأن أحداً لن يستطيع رثاءه.
"عابرون في كلام عابر"، هذه أيضاً القصيدة التي هزت الإسرائيليين، وفيها خاض محمود انتفاضته، وعلى طريقته، قصيدة جادت في كل أنحاء العالم، كما لا يتاح لأي شاعر ولأي شعر في هذه الأيام، إنها نبوءة وحدسه وإحساسه بالأرض وبالتاريخ، خشي العدو من قصيدة، كما لو أنه وقع على سلاح مدمر، لكن سلاح محمود درويش كان أقوى وأمضى، حيث صوّر حب فلسطين للحياة، حين سجّل الهناءة والوداعة في "خبز أمي" و"قهوة أمي"، وحين رصد لحظات ارتطام المسالمة بالمجزرة، كان مساهماً حيوياً في تفعيل ذاكرة شعبه، وفي تثبيت وجوده، وفي استيعاب المعاناة المتنقلة بين "الداخل" والشتات.
قدر الشاعر أن يتحول شخصياً وذاتياً إلى اختصار ورمز لشعب وقضية، ففي اللحظة القاتمة الراهنة كان محمود درويش يجالس الموت يومياً ويحدثه ولا يكف عن استمهاله ليصبح جاهزاً: "... ويا موت انتظر"، "فلتكن العلاقة بيننا ودية وصريحة"، كانت "الجدارية" تمريناً طويلاً ومضنياً في انتظار ما سيكون "متران من هذا التراب سيكفيان الآن/ لي متر و75 سنتمتراً/ والباقي لزهر فوضوي اللون،/ يشربني على مهل، ولي/ ما كان لي: أمسي، وما سيكون لي/ غدي البعيد، وعودة الروح الشريد/ كأن شيئاً لم يكن".
قال له الأطباء الفرنسيون إن الأمر خطير، ويمكن أن يعيش لبعض الوقت وأن يقضي في أي وقت، ولم ينصحوه بالعملية لأنها قد تتعجل الموت. وقال الأطباء الأميركيون إن العملية ستنجح لكنها لا تخلو من المجازفة، نجحت العملية ونجحت المجازفة. كان محمود يطلب من الموت أن ينتظر، هذه المرة بدا كأن الموت يطالبه بأن ينتظر، ولم ينتظر... دخل في جداريّته "كأن شيئاً لم يكن".