موريتانيا... والعسكر
تعود موريتانيا مرة أخرى خلال أعوام ثلاثة إلى المسرح السياسي العربي والأفريقي بمشهد مؤثر، بل ومثير، للكثيرين الذين راهنوا على "استثنائيتها" الديمقراطية مرة، ثم إحباطها للديمقراطية مرة أخرى في هذا الوقت المحدود. وقد توقف كاتب هذه السطور عند تلك الإثارة منذ اللحظة الأولى، حيث كان التفاعل السياسي الحي من سمات "الحالة الموريتانية" مبكراً، كما لم يكن تخلي "قيادة" عن موقعها نادراً في الحالة الأفريقية التي يعرفها الكاتب، ناهيك عن تفاعل المصالح الأجنبية، ودور العسكر- عرباً وأفارقة- في حفظ التوازن أو دفع بعض أطرافها! والمثير في المشهد الحالي على أية حال، هو استدعاء معظم هذه العناصر، في هذا الوقت القصير، إذ يعود العسكر لحفظ توازن المصالح الطبقية النامية في موريتانيا، والذين أطاحوا بسببها بـ"ولد الطايع" لضمان استقرارها لا توترها، كما يعودون- على ما يبدو- لحفظ التوازن مرة أخرى إزاء تهديد عناصر إسلامية واجتماعية، حافظت على هدوئها في المرحلة الأولى رضا بالجو الليبرالي الذي يمكن أن يخدم حركتها، وعندما وجدت أن جماعة ولد الطايع- إنْ صح التعبير- يتمكنون وحدهم من الموقف سارعوا بالتحرك، فاضطر العسكر الى التحرك بدورهم لحماية "جماعات السلطة" التقليدية مرة أخرى، وهذه هي رابطة العقد الأساسية حتى الآن للأسف إذن، فنحن أمام مشهد سياسي تقليدي تقدمه التطورات الموريتانية، وليس استثنائياً، كما يبدو للكثيرين في حالتيه؛ حالة أغسطس 2005، وحالة يوليو/ أغسطس 2008.
وتبقى الأسئلة حية حول مدى أهمية المصالح المستمرة في موريتانيا منذ عام 2005؛ والتى يعود العسكريون الى حمايتها؟ وما مدى توازن المصالح الأجنبية أيضاً إزاء احتمال بروز دور الإسلاميين والقوميين في المجالس الوزارية والبرلمان، وتيسير أجواء الفساد والمحسوبية لفرص صعود هؤلاء في المشهد السياسي، كما بدا مؤخراً؟ وذلك في أجواء تهديدات عودتهم إلى المشهد أيضاً في المغرب والجزائر، وأخطر من ذلك في منطقة الصحراء الكبرى التى تتصاعد فيها "الأعمال الإرهابية"، بينما تمضي المصالح الأميركية حثيثاً لضبط إيقاعها! ومن هنا نقول إن العسكريين الموريتانيين يقومون بدور تقليدي لا استثناء فيه، حتى وإن فاجأنا المشهد بانطلاقه بالشكل الذي تم منذ عام 2005.
لكن لماذا يتكرر إيقاع العسكرية "بنمطها العربي" هكذا في موريتانيا، ولا يتكرر- مثلا- إيقاعها (الأفريقي- العربي)؟ هذا النمط يكاد يكرر نموذجاً في أحسن أحواله قريباً من "الترك الشبان" الراغبين في الحداثة، وبعض التغييرات الاجتماعية، وفي حالات أخرى يكرر "نموذج الضباط الأحرار"، الذين يقدمون بعض الأهداف الوطنية وفي كل الحالات يرتبطون بنمط "المستبد العادل"! وحين ينسحب عنهم العدل الاجتماعي يصبحون "نمطاً مملوكياً" يحمون فقط المصالح السائدة وفق الظروف القائمة. وهذا الوضع هو الذي يدفع التحليلات إلى القول أحياناً "بكاريزما" هذه القيادة أو "استثنائية" تلك المجموعة، كما رأينا منذ الحرب العالمية الثانية في المشرق العربي، ووادي النيل، والمغرب العربي أو الشمال الأفريقي عموماً! وإذا كانت مصالح بعض الفئات الاجتماعية الناهضة- صناعية وتحديثية دفعت كاريزمات وأيديولوجيات، "ناصرية" و"بعثية"، و"بومدينية" أحياناً، فإن بعضها الآخر من نوع المصالح الاقتصادية التابعة في عصرنا قد تدفع "بالنمط المملوكي"، ولا تستطيع تقديم، حتى "ولد فال"، في مشهد ولو مصطنع للمستبد العادل! ولابد أن يشفق القارئ، وهو يطالع بعض مظاهر التأييد للانقلاب الأخير في موريتانيا؛ على أمل أن يُشكل عسكريون جدد قدراً من الاستبداد العادل، إزاء تسارع الفساد والانهيار إلى دوائر حكم "سيدي ولد الشيخ عبدالله"، وتكراره السريع لمشهد ولد الطايع وطبقته، لكن "ولد الشيخ" كان قد راح يستفيد من التفاعل السياسي في موريتانيا بإدخال بعض عناصره في المجلس الوزاري الأخير، كاحتياطي لدعمه ضد العناصر "التقليدية"، مما أثار موجه الاحتجاج في البرلمان، كما أثار العسكر الذين كانوا يحمونه منذ البداية في انتخابات رئاسية وبرلمانية بدت حرة أمام الكثيرين، لذلك من المتوقع أن يواصل العسكريون دور "ضابط الإيقاع" للمشهد السياسي حين ينتظم سلك مصالح سياسية فرانكفونية وبترولية، وأخرى تتعلق بمواجهة الإرهاب، فيعودوا أدراجهم، وقد تخلصوا من عناصر الانحراف في الصورة، كدرس متجدد للجميع، وتخويفاً من نمط مملوكي دائم للعسكرية العربية في وجهها الأسوأ...
وقد قدّمَ إيقاع العسكرية الأفريقية من قبل نموذجاً مختلفاً، قد يدهش البعض أيضاً، وهو ما كنت قد تمنيته منذ تطورات موريتانيا الأولى، أملاً في أن تقدم أطراف العالم العربي نماذج مختلفة في التنمية السياسية بديلاً للنظم العسكرية العربية التقليدية، لكن الظروف جاءت ضد "التوقعات التقليدية" لتحتفظ للعسكرية العربية بإيقاعها التقليدي، من المستبد العادل، أو "الترك البان" إلى المملوكية، حتى الشعبوية أحياناً.
العسكرية الأفريقية، لم تملك الأساس التاريخي العربي التقليدي، فهي نتاج تطور "الأبوية" القبلية التقليدية مما أنتجته من كاريزمات وطنية لفترة (نكروما- نيريري.. الخ). أو جنوب كولونيالية، قفزت على النماذج التقليدية لتدميرها، في موجة نعرفها من الانقلابات العسكرية (أواخر الستينيات) تم تطورت مع مطالب الحداثة وسياسات التكيف الهيكلي الجديدة منذ أوائل التسعينيات لتستسلم أمام المؤتمرات الشعبية الوطنية، وقواعد الليبرالية الديمقراطية التقليدية المتعثرة، بل والتسليم باسم الديمقراطية الشعبية نفسها للمصالح الإمبريالية في البترول واليورانيوم واستثمارات التعدين (من جنوب أفريقيا حتى دارفور) في ظل فوضى عرقية، وتصارع فرنسى أميركي صيني... الخ. لكن المشهد في النهاية يرتبط بانسحاب العسكرية الأفريقية منه، وهذه إيجابية تاريخية لصالح المستقبل بالتأكيد، وهو انسحاب أكسبنا ثقل نيجيريا السياسي المدني مثلاً، بل وقدم تهديد العسكرية العنصرية في جنوب أفريقيا، وعدم قفز العسكر على الأحداث في كينيا أو زيمبابوي، وهكذا، إن أبسط "الاضطربات" لم تحسم في بدايتها في دارفور (بالعسكرية العربية في الخرطوم)، بينما لم تدفع اضطرابات نيجيريا أو كينيا الحادة، أي تقدم للعسكريين هناك احتراماً للخيارات الديمقراطية الجديدة... وهذا ما لم يسمح به العسكريون الموريتانيون بدورهم.
هل معنى ذلك، أن "الثوابت" التاريخية العربية "ثقيلة" إلى هذا الحد الذي يعوق التطور في مراحله الحديثة المختلفة، بحجة الوطنية أو الأيديولوجية؟ وهل تصبح الهشاشة الاجتماعية ميزة قد تتفاعل لصالح تطور ديمقراطي؟ وهل يجعلنا ذلك نطمع في أن تؤدي "الهشاشة" الزاحفة على المجتمعات العربية -للأسف- إلى تقدم ديمقراطي جديد؟ قد يشمل موريتانيا إزاء توقع فشل العسكر في الاستمرار هناك لوقت طويل؟
الذين يرغبون في دراسة بعض آثار كل هذه السيناريوهات، عليهم أن يقرأوا بعناية الفرق بين بيانات وإجراءات الاتحاد الأفريقي، والجامعة العربية حول الحديث الموريتاني؟ كيف يحسم الأول أمره ضد "الانقلابات العسكرية"، وكيف لا يستطيع "البيان العربي" أن يجرؤ على ذلك... والنصوص كثيرة في "الخطاب العربي"... وليست حول موريتانيا وحدها!