هناك إجماع بين علماء العلاقات الدولية على أن النظام الدولي الحديث يقوم أساساً على ما يطلق عليه الدولة القومية Nation State. وهي نمط محدد من أنماط الدول تستمد شرعيتها من كونها تقوم بوظيفة كيان له سيادة لأمة ما مستقرة على إقليم محدد. والدولة بذلك هي وحدة سياسية وجيوبوليتكية، في حين أن الأمة هي وحدة ثقافية أو عرقية. والدولة القومية تتميز عن الدول السابقة عليها، لأن نموذجهاً لو طبق تماماً فإن ذلك يعني أن مواطنيها يشتركون في الحديث بلغة واحدة، وأن ثقافتهم وقيمهم واحدة أيضاً. وهذا الوضع لم يكن سائداً في الدول ما قبل الدولة القومية. وفكرة الدولة القومية عادة ما ترتبط بنشوء النظام الحديث للدول، والذي غالباً ما يطلق عليه "نظام ويستفاليا"، إشارة إلى المعاهدة التي عقدت عام 1648، وقامت على أساس توازن القوى بين الدول الأوروبية الكبرى التي وقعت عليها في ذلك الوقت. ومبدأ توازن القوى الذي قامت على أساسه تلك المعاهدة التي أنهت حرب الثلاثين عاماً، يعتمد على فاعلية الدول بحسبانها وحدات مستقلة محكومة مركزياً بحكومة واحدة، وسواء كانت إمبراطوريات أو دولاً قومية، تعترف كل دولة منها بسيادة الدول الأخرى على أراضيها. ولا يعني ذلك بالضرورة أن نظام "ويستفاليا" هو الذي أنشأ نموذج الدولة القومية، غير أن هذا النموذج ينطلق مع المعايير التي نصت عليها معاهدة ويستفاليا، والتي تركز أساساً على سيادة الدولة المطلقة على أراضيها، وعلى النظر إلى حدودها باعتبارها مقدسة. نسوق كل هذه المقدمات بمناسبة الخطاب التاريخي الذي ألقاه العقيد معمر القذافي في الفيوم بجمهورية مصر العربية يوم 4 يوليو 2008، عقب زيارة له لشرم الشيخ في سيناء المصرية، قابل فيها وفداً من القبائل البدوية. ووصفنا لخطاب القذافي بأنه "تاريخي" ليس من قبيل المبالغة، لأنه في الواقع يتضمن نظرية متكاملة تهدف إلى نسف الأسس التي تقوم عليها الدولة القومية، وخصوصاً فيما يتعلق بقدسية حدود الدول وضرورة احترامها، والدفاع عن أي اعتداء عليها أياً كان نوعه، وتبشيراً بأن الوحدة التي ينبغي أن تبنى عليها الدول هي القبيلة. ومن الملفت للنظر بشدة أن القذافي كان يخاطب الجماهير في الفيوم باعتبارهم ممثلين لقبائل ليبية سبق لهم أن استوطنوا مصر، وقال في خطابه "إن هذه القبائل التي تمتد من أسيوط وأسوان إلى الفيوم إلى البحيرة إلى الصحراء الغربية إلى الجبل الأخضر إلى المنيا، ومن المنيا إلى سرت، من البحيرة إلى مطروح إلى زلتين إلى مصراتة إلى ترهونة إلى بني وليد، هذه القبائل وجودها كلها امتداد واحد". ونظراً للأهمية القصوى لهذا الخطاب السياسي نوجز النظرية المتكاملة التي قدمها العقيد القذافي في عدة نقاط أساسية. أولاً: الحدود بين الدول حقيقة موجودة، ولكنها فرضت بسبب أو بآخر، مع أن البشر الموجودين فوق الأرض عبر الحدود هم قبائل واحدة. وقرر أن الثوار مثل جمال عبدالناصر وقادة "ثورة الفاتح" لا يؤمنون بهذه الحدود، ويعتبرونها مُصطنعة ومزيفة صنعها الاستعمار. ثانياً: كل من يدعو للوحدة العربية من المحيط إلى الخليج لا يعترف بالحدود بين الدول. ثالثاً: أفراد القبائل الليبية التي استوطنت مصر من حقهم كليبيين أن يدافعوا عن أرض مصر، ومن هنا الحديث عن دولة مصرية أو دولة ليبية مسألة معيبة وليست مفيدة، وكما قرر العقيد "ونحن كثوار نرفضها تماماً". رابعاً: أضاف العقيد القذافي أنه ما دامت الدول مكونة من القبائل الليبية كالتي تعيش في مصر، فقد طرح فكرة إعادة إحياء دولة قديمة. وحين يتم إحياء تلك الدولة من مراكش إلى الشرق العربي فمعنى ذلك أن منطقة شمال أفريقيا تصبح دولة واحدة، وتخلق هوية موحدة، وتختفي الهويات السائدة المصرية أو الليبية! خامساً: لأننا نعيش عصر الجماهير فهي ستفرض نفسها، ويعني بذلك المواطنين العاديين وليس الحكومات ولا الأحزاب. فالمواطن العادي الآن أصبح هو السيد، ويجب أن يُحسب حسابه، ويحب أن يرضى، وإذا غضب يحمل البندقية! سادساً: الأحزاب في الوطن العربي فشلت، كل الأحزاب السياسية فشلت في التحرير وفي صنع التقدم، وفي الوحدة. وقال القذافي "رجعنا للقبائل لأن القوى الأخرى فشلت. أين حزب البعث؟ أين القوميون العرب؟ أين الأحزاب الوطنية الأخرى؟ أين الأحزاب الشيوعية؟ أين الأحزاب الدينية؟ كلها تشرْذمت ولم تعمل شيئاً، لا وحَّدت الأمة ولا حررتها ولا بنَتْ قوتها، فرجعنا للقبائل". وفي عبارة حاسمة قاطعة قال: "لم يبق إلا القبيلة"! لأن "حزب هذا العصر هو القبيلة، وجيش الغد هي القبيلة، والذي يبني هي القبيلة، والذي يوجد هي القبيلة"! وأضاف سيادته "القبيلة عندها التزام خلقي، القبيلة عندها عرف وعندها تقاليد وعندها أخلاق تحفظ سلوك أبنائها، والذين ينحرفون والذين يبيعون أنفسهم ليسوا أبناء القبائل". ولو لجأنا إلى إجراء دراسة اجتماعية حقيقية "وذلك في ليبيا أو في مصر أو في أي بلد عربي آخر، نجد أن الذين يدخلون الزندقة والذين يدخلون الإرهاب، والذين يكونون عملاء لأميركا وعملاء للإسرائيليين أو عملاء لقوى أجنبية لا يمكن أن يكونوا من أبناء القبائل". ولو طرح سؤال على العقيد القذافي: لماذا؟ فإنه يجيب: "القبائل شريفة، وعندها أخلاق وعندها مُثل وعندها وطنية، أما هم فمن شذاذ الآفاق... من الأقليات... من العائلات التي ليس لها أصل". لم يقنع العقيد بهذا الخطاب، ولكنه صعَّد الموقف حين دعا أبناء القبائل "الليبية" في مصر إلى تكوين منظمة قبلية حتى تكون هذه القبائل كلها جبهة متراصَّة، بما فيها من متعلمين ومثقفين وسياسيين ومحامين وأعضاء في مجلس الشورى والبرلمان وصحفيين وأساتذة وما إليه، حتى تكون هذه المنظمة جبهة متراصَّة بما يؤمِّن النظام الوطني في مصر ويدعم الاستقرار فيها، وتؤيد الرئيس حسني مبارك في برنامجه وفي منهجه. هكذا تكلم القذافي. وفي تقديرنا أن خطابه المهم بما احتواه من أفكار وأحكام تقييمية متعددة يحتاج إلى تحليل نقدي دقيق؛ وذلك لأن جوهر فكرته الأساسية دعوة جريئة لتفكيك الدولة القومية التي ما قامت إلا لتلمَّ شتات القبائل والجماعات العرقية المبعثرة في كيان واحد له حدوده المعترف بها دولياً، وهذا الكيان الذي هو الدولة القومية العضو في الأمم المتحدة والمعترف بها عالمياً، هو الذي قاد مسيرة التطور الحضاري في العصر الحديث والمعاصر وسواء كانت دولة متقدمة أو دولة نامية بدرجات متفاوتة من النجاح والإخفاق، بحسب المراحل التاريخية، والسياقات السياسية، والاعتبارات الثقافية. إن الأحكام التي ساقها العقيد القذافي في خطابه تحتاج إلى مناقشة علمية جادة. فهل صحيح أن الدولة القومية فشلت، وأنه ينبغي تفكيكها والعودة مرة أخرى إلى عصر القبلية؟ غير أن هناك قبائل متعددة، فأي القبائل هي التي ستهيمن على الموقف؟! وهل صحيح أن الأحزاب السياسية العربية بكل أطيافها السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار قد فشلت؟ وهل تبرئة القبيلة من أي سلبية في الماضي أو في الحاضر أو في المستقبل، نظرة واقعية تاريخية حقاً، أم هي نظرة مثالية؟ وما هي حكاية أن "القبائل" الموجودة في مصر هي قبائل ليبية قدمت من ليبيا واستوطنت في مصر؟ وكيف تجوز دعوة "القبائل" أن تكوِّن منظمة قبلية؟ وهل صحيح أنه ينبغي إلغاء الحدود -هكذا- بين الدول لأنها حدود مصطنعة اختلقها الاستعمار؟ وإذا انطبق ذلك على بعض الدول العربية بحكم اتفاقية "سايكس-بيكو" الشهيرة، فهل ينطبق على مصر بحدودها التاريخية المعروفة منذ القدم. إن أفكار العقيد القذافي ليست محض أفكار نظرية، بل إنها في الواقع ترجمة لخبرته العملية كقائد لثورة الفاتح. فقد رفع شعار "من تحزب خان"، ووضع "الكتاب الأخضر" أيديولوجية رسمية للدولة، وأسماها الجماهيرية الليبية العظمى. وشكل اللجان الشعبية، ومعنى ذلك أن الرئيس الليبي يريد تصدير النموذج الجماهيري الليبي إلى مصر! أفكار العقيد القذافي بما فيها من تعميمات تستحق دراسة نقدية.