روسيا... هبوط خشن آخر!
الانتصار الذي حققته روسيا على جورجيا يمثل تعويضاً لها عن السنوات التي عانت فيها من التهميش على الصعيد الجيوبوليتيكي عقب انسحابها من أوروبا الشرقية، فقد تعرضت لمعاملة مهينة من قبل الغرب الذي كان يهز إصبعه محذراً إياها من أي محاولة لتجاوز حدودها، سواء في الداخل أو الخارج.
وما يساعد على استرداد روسيا لأهميتها الجيوبوليتيكة -بخلاف الانتصار على جورجيا- أن ناتجها القومي الإجمالي قد ارتفع من 200 مليار دولار عام 1999 إلى 1.2 تريليون دولار عام 2007، وهو ارتفاع هائل دفع الكثيرين للاعتقاد بأنها قد أصبحت تمتلك أموالاً طائلة لا تعرف كيف تنفقها.
وفي الوقت الراهن، يستعرض الروس قوتهم من خلال معاقبة الجورجيين على نسيان حقيقة أنهم يعيشون في فنائهم الخلفي، وهو ما يوجه في ذات الوقت رسالة ضمنية إلى جمهوريتي التشيك وبولندا اللتين سبق تحذيرهما من مغبة نشر منظومة الصواريخ الدفاعية الأميركية على أراضيهما.
ووضع روسيا الحالي يذكر بوضع الاتحاد السوفييتي منذ ثلاثين عاماً، عندما تدفقت عليه أموال طائلة من حصيلة بيع النفط والغاز، دفعته إلى تهديد أوروبا الشرقية، وتحدي الولايات المتحدة، ثم غزو أفغانستان عام 1979... سعياً إلى تحقيق حلمٍ عمرُه أكثر من قرن، يتمثل في التمدد جنوباً حتى الوصول إلى المياه الدافئة في المحيط الهندي.
وقد أدى غزو أفغانستان آنذاك إلى دق المسمار الأخير في نعش سياسة الوفاق بين الشرق والغرب، كما كان إيذاناً ببدء فصل من فصول الحرب الباردة انتهى بسقوط الاتحاد السوفييتي نفسه.
ما سبب انهيار الاتحاد السوفييتي؟ هناك قائمة طويلة لتلك الأسباب يأتي على رأسها، التورط في أفغانستان، والإنفاق العسكري المبالغ فيه، والاعتماد على صادرات النفط والغاز للحصول على النقد الأجنبي، والعجز عن إصلاح الاقتصاد السوفييتي، وعدم وجود منابر تعبير للمعارضة الداخلية.
وإذا ما انتقلنا للعام 2008، فسنجد أن روسيا تمتطي أعلى خيولها، وتتبختر في خيلاء، محاولة تعويض ما فقدته خلال العقود الماضية، بينما يقف الأميركيون والغربيون حائرين، لا يدرون كيف يعاقبون المارد الروسي الذي انبعث مجدداً، والذي يحتاجون إليه بصورة ماسة من أجل إرواء عطشهم المزمن على النفط، ومساعدتهم على التوصل لصفقة مع إيران، والاستمرار في شراء العملة الأميركية للحيلولة دون تعرضها لمزيد من الخسائر.
لكن من ذا الذي يمكن أن يقول إن انتصار روسيا على جورجيا لن يقود إلى كارثة أخرى خلال سنوات قليلة قادمة؟
ليس هناك من شك في أن ثمة مشكلات كثيرة تختمر في روسيا حالياً، وهي تختلف من حيث النوع عن تلك التي غض الاتحاد السوفييتي الطرف عنها منذ ثلاثين عاماً، بعد غزوه لأفغانستان. من تلك المشكلات على سبيل المثال لا الحصر، أن سكان روسيا يتناقصون بشكل مستمر، كما تتقلص معدلات أعمارهم لدرجة أن عمر الروسي العادي لا يزيد في الوقت الراهن على 60 عاماً، ومنها أيضاً أن مستقبلها أصبح يعتمد بشكل أساسي على النفط، الذي تتعرض حقوله إلى النضوب على نحو مطرد.
وبصرف النظر عن الطريقة التي ستنتهي بها الأزمة الحالية، إلا أن العواقب التي يمكن أن تترتب عليها، سواء بالنسبة للشرق أو الغرب، سوف تكون بعيدة المدى، إذ ليس هناك من شك في أن الوصمة التي التصقت بروسيا جراء حربها مع جورجيا لن تزول من أذهان الغرب لسنوات قادمة، وهو ما يعني، أن الأمر سيحتاج منها إلى اتخاذ مسار مختلف تماماً، وذلك لإصلاح الضرر الذي لحق بصورتها.
علاوة على ذلك سيحتاج الأمر من روسيا إلى مهارة وصبر حتى تتمكن من الهبوط السلس عائدة إلى أرض الواقع. والمشكلة هنا تكمن في أن سجل موسكو في الهبوط السلس ليس جيداً، وأن أي هبوط خشن تقوم به، سيكون محسوساً لمسافة بعيدة وراء حدودها. هذا هو ما يجب أن نفكر فيه جيداً الآن حتى لو لم يكن الروس يقومون بذلك.
يوجين رومر
زميل رئيسي في معهد الدراسات القومية الاستراتيجية التابع لكلية الدفاع الوطني الأميركية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"