ديمقراطية تعدّد المكاييل
في الآونة الأخيرة، أكثرت بعض وسائل الإعلام العالمية والعربية، الحديث عن ديمقراطية إسرائيل وتساوي البشر فيها أمام القانون. أتى ذلك من خلال الاستجوابات لرئيس الوزراء أيهود أولمرت في إطار التحقيقات في مزاعم رشى واحتيال، تشمل أهم التحقيقات مزاعم بأنه تلقى رشى وتقاضى مصاريف سفر ليست من حقه عندما كان وزيراً للتجارة ورئيساً لبلدية القدس. ولكن إذا ما كانت هذه قمة الديمقراطية -كما يزعم- فماذا عن مواقف الديمقراطية نفسها من حقوق الفلسطينيين، ولماذا لا يعامل حتى حاملي الجنسية الإسرائيلية منهم (عرب 1948) المعاملة نفسها، ولماذا يعامل جميع الفلسطينيين معاملة أقل ما يمكن وصفها به هو أنها غير إنسانية؟
ربما يمكن الرد على ذلك بالقول إن السبب يعود إلى أن القيادات الإسرائيلية المعاصرة تفسر الصهيونية بأنها مناداة صريحة لتأسيس دولة يهودية خالصة في فلسطين المحتلة، وهذه بالتأكيد نظرة عنصرية لا أخلاقية بعيدة كل البعد عن أبسط مقولات الديمقراطية، فالعنصرية والديمقراطية لا يلتقيان مطلقاً. وبالتمعن في هذا الطرح الخطير لمعنى العنصرية تتضح في ثناياه فكرة خطيرة هي أنه لا بأس ولا ضير في القضاء على آلاف البشر من غير اليهود، وبالتأكيد من الفلسطينيين مسلمين ومسيحيين، لكي تبقى الدولة يهودية خالصة لأن ذلك كان مطلوباً في السابق وهو مطلوب في الحاضر وسيبقى مطلوباً في المستقبل.
عملية ضخمة من هذا القبيل، وهي ترحيل آلاف الفلسطينيين أو القضاء عليهم تحتاج إلى شيئين لكي تنجز: الأول، هو مقادير ضخمة من الأموال والمعدات العسكرية، والثاني، هو التعاون، أو على أقل تقدير الصمت من قبل جميع الأقطار المجاورة لإسرائيل. إن الأمر الثاني كان يحتاج إلى نزع صاعق القوة العسكرية العربية لكي لا تعمل، فكان أن حيدت مصر والأردن، وتم غزو العراق وتدمير جيشه، والسعي الآن إلى عقد معاهدة سلام مع سوريا الذي بدت بوادره تلوح مؤخراً.
على مدى السنوات الأربعين أو نيف التي خلت، قامت قيادات إسرائيل المؤيدة للحرب ضد العرب بشن حروب ضخمة طاحنة ضد التجمعات السكانية العزلاء وغير القادرة على الدفاع عن نفسها المتبقية ضمن الأراضي التي تشكل إسرائيل حالياً بحدودها الدولية أو تلك التي تحيط بفلسطين. ففي يونيو 1982 قاد شارون غزو لبنان وقتل حوالي 20 ألفاً من المدنيين الأبرياء من الفلسطينيين واللبنانيين، وسقط ما لا يقل عن ألفي شهيد من النساء والأطفال في مذبحة نفذتها قوات شارون في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في بيروت وحدها، في خرق واضح لقرار وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه آنذاك.
في سبتمبر 2000 قامت إسرائيل بدق المسمار الأخير في نعش اتفاق أوسلو، عندما هوجم مسجد الصخرة في القدس، وقتل عدد كبير من المصلين، ومنذ ذلك الوقت أمسكت بالسلطة في إسرائيل حكومات متسلطة، بدءاً بشارون وانتهاءً بأولمرت، قامت بتنفيذ سياسات عسكرية قمعية رهيبة هي الأولى من نوعها في تاريخ إسرائيل، فمنذ سبتمبر 2000 هدمت إسرائيل حوالي 20 ألف منزل وقتلت ما يزيد على أربعة آلاف مدني، وجرحت وتسببت في العجز الجزئي أو الكلي لما يزيد على 40 ألفاً من المدنيين. وبالإضافة إلى ذلك، قامت إسرائيل بشن هجمات عسكرية واجتياحات شاملة وأغلقت المعابر الحدودية أمام الفلسطينيين في المناطق والمدن كافة، كبيت لحم ونابلس ورام الله وجنين وقطاع غزة، نتجت عنها مشاكل إنسانية عويصة لا حصر لها.
وعلى مدى السنوات الأربعين التي خلت قامت إسرائيل بخرق قرارات الأمم المتحدة أكثر من أي دولة أخرى على وجه الأرض، فإذا أُضيف ذلك إلى السياسات والتصرفات الإسرائيلية الأخرى، فإن الحصيلة هي كمٌ هائل من الممارسات المنهجية غير الديمقراطية وغير السوية قامت بتوثيقها وسائل الإعلام والمنظمات والهيئات المعنية بحقوق الإنسان على مدار الكون. لذلك فإن ما نسمعه عن ديمقراطية إسرائيل هو نوع من الهرطقة التي تثير الاشمئزاز والسخرية، فإذا كانت هذه هي الديمقراطية الإسرائيلية التي يتم الحديث عنها، فإن المسألة تعني ببساطة الكيل بأكثر من مكيال، فهل تقتصر الديمقراطية في القطر الواحد على عرق دون آخر أو طائفة دون أخرى، في حين يترك الآخرون نهباً لكافة أنواع القتل والتنكيل والقهر وهم يعيشون في القطر نفسه ويخضعون لقوانينه نفسها؟ إذا كان الأمر بهذا الشكل، فهي لعمري معادلة مقلوبة تقع بعيداً عما يعرفه العالم عن الديمقراطية التي يعامل البشر وفقاً لها على أنهم سواسية كأسنان المشط.