زمن الانتصارات
عاش لبنان عامة، وبيروت خاصة الشهر الماضي أفراحاً عارمة بمناسبة عودة الأسرى واسترداد جثامين مائتي شهيد. استشهدوا في فلسطين ووارت فلسطين أجسادهم لمدة عامين وكانوا يرجون العودة أحياء إلى فلسطين بعد التحرير، ولكنهم أحياء عند ربهم يرزقون استعداداً لجيل آخر لاستكمال المهمة وتحقيق الرسالة. وكانت للحدث آثار بالغة على الكيان الصهيوني وعلى لبنان وعلى فلسطين وعلى العرب وعلى العالم بأكمله.
فبالنسبة للكيان الصهيوني تم تبادل الأسرى والشهداء في الاحتفال بالعيد الثاني لانتصار يوليو 2006. فأصبح العيد عيدين. وتعلمت إسرائيل أن الحرب سجال، يومٌ لك ويوم عليك، وأن العبرة ليست بالكم كما هو الحال في السابق، دول عربية سبع، في مواجهة دولة صغيرة ناشئة، دولة إسرائيل المزعومة التي لم يُعلن حتى عن ميلادها بعد، ولكن بالكيف أصغر دولة عربية، لبنان، في مواجهة أعتى دولة وجيشها كما تدعي من أقوى جيوش العالم. شعب في مواجهة دولة، ومقاومة في مواجهة جيش، وفرد في مواجهة دبابة، ونفق تحت الأرض في مواجهة فضاء تمرح فيه مصفحات العدو وعرباته وتبحث عن عدو فلا تجده. ثم تظهر كمائنه فجأة فتحاصره وتقضي على بعضه ويفر البعض الآخر عائداً إلى الأرض المحتلة. ثم يثبت قوته في السماء بطيرانه لضرب المدنيين في المدن في الشمال والجنوب، ودك الضاحية في جنوب بيروت. وقد أديرت مفاوضات تبادل الأسرى دون الحسم في الأسيرين الإسرائيليين، حيين أو ميتين. وتلقفها الكيان الصهيوني جثتين في نعشين. وبقدر ما كانت أفراح في لبنان كانت أحزان في الجانب الآخر. وبقدر ما ظل الإعلام اللبناني وقنواته الفضائية مملوءة بالأفراح على مدار الساعة كانت الأخبار عن تبادل الأسرى على الجانب الآخر هامشية. ومازال الشك يتزايد حول إمكانية استمرار وجود إسرائيل في الستين عاماً القادمة كما وجدت في الستين عاماً الماضية. وقد بدأت الهجرات المضادة في الازدياد، من "العاليا" إلى "الدياسبورا" كما بدأت الهجرات منذ قرن من الزمان من "الدياسبورا" إلى "العاليا".
وفي لبنان توحدت "الموالاة" و"المعارضة" بعد خصام دام حوالي سنتين مما ذكَّر بالحرب الأهلية اللبنانية التي دامت خمسة عشر عاماً وتحقيق المصالحة الوطنية بين الإخوة الأعداء بعد النزاع حول توزيع السلطات السياسية والمناصب والمقاعد والوزارات. كما توحدت الدولة والمقاومة، التي كانت تسمى الشرعية واللاشرعية، وأصبح رئيس الدولة ممثلاً للدولة والمقاومة، ومطالِباً بانسحاب العدو الإسرائيلي من باقي المناطق المحتلة بالجنوب، مزارع شبعا وكفر شوبا وغيرها. وعاد الزعماء الوطنيون التقليديون الذين فرقتهم السياسة إلى الحوار الوطني. وذابت الطائفية والمذهبية لصالح المقاومة الوطنية. وتعددت الأطر النظرية للمقاومة، مسيحية أو إسلامية، سُنية أو شيعية، دينية أو علمانية، لصالح المقاومة الوطنية على الأرض. فما فرقته دعوات السماء وحدته دماء الشهداء على الأرض. والخطورة العودة إلى الانقسام السياسي من جديد، والتسابق على السلطة، ونسيان وحدة المقاومة الوطنية والائتلاف الوطني والحوار الوطني وهو أهم ما يميز لبنان. فمازال المشروع الأميركي- الصهيوني قائماً بالمرصاد لابتلاع لبنان وضياع انتصار يوليو.
والخطورة الآن هي ضياع هذا النصر المبين بالعودة إلى الاقتتال في طرابلس بين الخصوم السياسيين والمبالغة في الأسرى إلى ظاهرة إعلامية، ورفع الأعلام الحزبية والطائفية بجوار العلم الوطني اللبناني بعد أن وحَّد الوطن الجميع.
وفي فلسطين، زادت ثقة المقاومة بنفسها، وتمسكت فصائلها من "حماس" وفتح و"الجهاد" والجبهتان "الشعبية" و"الديمقراطية". وتمسكت أكثر بمبادئها، ورفض التنازلات عن الحق الفلسطيني في استرداد الأرض المحتلة بما في ذلك القدس الشرقية وعودة اللاجئين والحدود الآمنة المعترف بها، والسيادة على مصادر المياه، وحق المقاومة المشروعة لاسترداد الحقوق. أصبحت المقاومة اللبنانية نموذجاً للمقاومة الفلسطينية خاصة أن عين المقاومة اللبنانية على فلسطين وعاصمتها القدس. لم تأخذ السلطة الوطنية الفلسطينية شيئاً حتى الآن. مفاوضات لا تنتهي، كلام وخطط ووعود وضياع للوقت. والمستوطنات تزداد على رغم عشرات القرارات بأن المستوطنات غير شرعية، وعدم جواز الاستيطان في الأراضي المحتلة. ويزداد الاعتراف بـ"حماس" كطرف مفاوض من أميركا وإسرائيل والاتحاد الأوروبي بل ومن مصر والعرب. والخطورة استمرار الانشقاق في الصف الوطني الفلسطيني بين "حماس" و"فتح"، وازدواجية السلطة بين غزة والضفة الغربية كما كان الحال بين "المعارضة" و"الموالاة" قبل انتصار المقاومة اللبنانية. بل إن الاقتتال في غزة بين "فتح" و"حماس" مثل الاقتتال في طرابلس بين السُّنة والعلويين.
وقد أثرت المقاومة الوطنية اللبنانية على الصعيد العربي. فلأول مرة يُعرف أن الجثامين العائدة هي من لبنان وفلسطين والأردن وسوريا ومصر والمغرب واليمن والعراق، وأن المتطوعين من الوطن العربي جزء لا يتجزأ من المقاومة اللبنانية. فالوطن العربي مازال بخير على رغم ما يبدو على بعض الأنظمة السياسية من ترهُّل وسعي وهرولة نحو مشاريع التسوية باسم السلام العادل ومشاريع السلام العربية أو الأميركية. وأن العرب قد رضوا بأن تكون حرب أكتوبر 1973 آخر الحروب، وبأن السلام خيار استراتيجي، وتنازلوا عن مقولات مثل "ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة". فقد ولّى زمن الهزائم وهلَّ زمن الانتصارات. وعرف العرب الطريق، ليس جيشاً في مواجهة جيش، أو دولة في مواجهة دولة، بل شعب في مواجهة جيش، ومقاومة في مواجهة احتلال. لقد ذاق العرب مرارة الهزيمة ولكنهم ذاقوا أيضاً طعم النصر. وتحول العرب من التشاؤم إلى التفاؤل، ومن رصد وعيهم التاريخي المهزوم 1948 إلى 1967 إلى وعيهم التاريخي المنصور منذ ثورة عز الدين القسام 1936 إلى تأميم القناة في 1956 إلى حرب الاستنزاف 1968- 1969 إلى حرب أكتوبر 1973 إلى مقاومة بيروت 1982 إلى انتفاضة الحجارة 1987 إلى انتفاضة الأقصى إلى تحرير الجنوب 2000 إلى انتفاضة الأقصى 2002 إلى المقاومة العراقية 2003 إلى انتصار يوليو 2006 إلى عودة الأسرى يوليو 2008. وانتهت أساطير العدو الذي لا يقهر بمعارك بنت جبيل وعيثا الشعب في الجنوب، وذراع إسرائيل الطويلة وصواريخ المقاومة إلى قلب إسرائيل، شمالاً وجنوباً وغرباً وشرقاً. ووضع أنصار التسوية السلمية في مأزق، أنصار كامب ديفيد.
وعلى الصعيد الدولي، ارتفعت هامة العرب كما حدث بعد حرب أكتوبر 1973. وشعر العالم بكرامة العرب وبقدرتهم على النصر، وبأن العروبة رجولة ووعود ووفاء بالعهود. وهم طرف متكافئ في أي حوار أو تسوية سلمية تقوم على العدل. كما اقتنع العالم بأن هناك حدوداً للعدوان، ومناصرة الظلم. كما أن هناك حدوداً للقوة العسكرية. وكما قلبت حرب السويس في 1956 موازين القوى الدولية فإن حرب يوليو في 2006 وتبادل الأسرى الشهر الماضي قادرة على تغيير موازين القوى من جديد لصالح العرب وتعديل مسارهم في التاريخ.