استفزازات إيران... متى تنتهي؟
بين مدٍّ وجزر، وتصعيد وتهدئة، وتراجع وتدافُع، تعود لغة التهديد وضجيج الحرب لتطغى مجدداً على المشهد السياسي الإقليمي الخليجي، مع ارتفاع مؤشر التوتر في الأشهر الأخيرة من إدارة الرئيس جورج بوش على خلفية تجاذبات برنامج إيران النووي، والتحضيرات لإصدار قرار رابع من مجلس الأمن يُشدد العقوبات على طهران، وربما يدفع بالمنطقة إلى حافة الهاوية. وترتبط بذلك مواقف دولية أميركية وأوروبية متشددة تجاه إيران التي تستمر، في المماطلة والتسويف بتخصيب اليورانيوم لتطوير برنامجها النووي، حتى يغادر الرئيس بوش وإدارته البيت الأبيض على أمل أن يُوصل الناخب الأميركي "أوباما" إلى السلطة، وهو الذي يُبدي استعداداً للجلوس مع إيران على مائدة التفاوض.
وفي هذه الأثناء تبدو الاستراتيجية الإيرانية مرتكزة على عاملين: المماطلة وشراء الوقت من جهة، والتعويل على الدعم الروسي والصيني في مجلس الأمن لإحباط أي قرار يفرض عقوبات أشد من جهة أخرى. وفيما يتصلب الموقفان الأميركي والأوروبي ويسعيان إلى فرض حزمة جديدة من العقوبات، تهدد إيران بإغلاق مضيق هرمز، وتجرب من حين لآخر صواريخ جديدة، معيدةً أجواء الحرب إلى الفضاء الإقليمي، بعد مرحلة قصيرة من التفاؤل لم تشأ لها أن تعمّر طويلاً، لنبقى نحن في الخليج نتقلّب بين حديث عن التحضير لضربة عسكرية، أو احتمال عقد صفقة، بين الغريمين، وفي كل الأحوال على حسابنا طبعاً، سلماً أم حرباً.
إيرانياً، برزت مواقف عدائية ومستفزة تجاه دول مجلس التعاون الخليجي على المستوى الاستراتيجي بالتهديد المتكرر بإغلاق مضيق هرمز، وصولاً إلى التشكيك في شرعية وحتى في بقاء الأنظمة في دول المجلس، بل حتى التنبؤ بسقوطها. وهذا ما أكده مساعد وزير الخارجية الإيراني لشؤون البحوث والدراسات منوشهر محمدي. وهي تصريحات وصفها أمين عام مجلس التعاون الخليجي عبدالرحمن العطية بصفات قلَّ أن سمعنا مثلها من مسؤول خليجي، حين وصفها بالعدائية والمشبوهة والمخيبة للآمال، وغير المسؤولة والسافرة. كما طالب إيران بتقديم توضيح فوري عما جاء على لسان منوشهر محمدي، قبل أن يتراجع هذا الأخير بسبب موجة الغضب الخليجي ملقياً باللائمة على وسائل الإعلام، مدعياً أنها أخطأت في تفسير كلمته! قائلاً إن السياسة الإيرانية قائمة على احترام سيادة الدول المجاورة على أراضيها، واحترام حكوماتها، وتوثيق العلاقات معها. وهذا التناقض في المواقف، وإصدار التصريح وضده تجاهنا، بات علامة إيرانية مسجلة لا تُساهم، بكل تأكيد، في بناء الثقة المفقودة.
وقد شاركتُ على فضائية إخبارية عربية مع ضيف من طهران حول ردود الفعل الخليجية الغاضبة جراء تلك التصريحات الاستفزازية وغير الحكيمة. ولعل أكثر ما استغربته في ذلك اللقاء مع الضيف الإيراني "المعتدل" اكتفاؤه بوصف ذلك المسؤول الإيراني المستفز، بـ"غير المتمرس" وبأنه قد "جانبه الصواب، وأخطأ"! ومفهوم أنه مثل هذه التبريرات السطحية ليست طريقة مناسبة يمكن لإيران أن تكسب بها الأصدقاء، أو حتى تحافظ على صداقة دول المجلس التي لا تناصبها العداء أصلاً. وكما قال وزير الخارجية الكويتي: "نحن أصدقاء لإيران، ونؤيد حق امتلاكها طاقة نووية سلمية. وضد أي عمل عسكري ينطلق من الأراضي الكويتية ضد إيران على رغم تحالفنا مع الولايات المتحدة الأميركية... ويجب أن يكون حيادنا إيجابياً". والمؤسف أن الاستفزاز يحصل على رغم كل هذه المواقف الخليجية المعتدلة والمؤيدة في جوهرها لإيران بشكل جماعي في قرارات قمم مجلس التعاون الخليجي، أو ثنائي معها كدولة جارة. وقد امتنعت دول مجلس التعاون الخليجي أيضاً عن انتقاد إيران لدورها السلبي والمتنامي في العراق، الذي يساهم في إبقائه مستنقعاً نازفاً، ما يشكل تهديداً لأمن وسلامة منطقة الخليج بأسرها.
أما التصعيد الجيواستراتيجي الإيراني الآخر، فكان تهديد قائد الحرس الثوري الإيراني الجنرال محمد علي جعفري بإغلاق مضيق هرمز، والتلويح بسهولة تلك المهمة. وهو تصريح يثير قلقنا في دول مجلس التعاون الخليجي حقاً. على رغم أنه تهديد إيراني تكرر بشكل ملفت مؤخراً، وتستخدمه طهران كورقة ردع لتصعيب احتمال العمل العسكري ضدها. وقد رد وزير الخارجية الكويتي على ذلك أيضاً بقوله: "إن هذه البحيرة (الخليج) نشترك فيها جميعاً، والكلام عن إغلاق مضيق هرمز يؤثر علينا بشكل كبير. ليس الإغلاق وحده. إنما مجرد الحديث عن الإغلاق يخلق حالة من التوتر، وسيرتفع التأمين المفروض على السفن العابرة في هذا المضيق".
وبالفعل فهذه التهديدات الإيرانية باتت مستهجنة ومرفوضة. وإذا عدنا مع الذاكرة فإن إيران لم تنجح في إغلاق مضيق هرمز خلال حربها الطويلة مع العراق، ناهيك عن خرق ذلك التصرف للقانون الدولي الذي يؤكد أن مضيق هرمز ممر مائي دولي ليس ملكاً لإيران ولا لأي دولة. وهكذا، فبعد أن ناصبت إيران دول مجلس التعاون الخليجي العداء عبر التصريحات الاستفزازية عن شرعية وديمومة الأنظمة في دول الخليج العربية، ها هي أيضاً تستفز "وتعاقب" دول الخليج مجدداً ومعها المجتمع الدولي الذي يبدو مصمماً على فرض المزيد من العقوبات المتشددة على طهران التي يعيش 14 مليوناً من شعبها دون خط الفقر.
والنتيجة أن الخليج يبقى بذلك متقلباً بين المد والجزر الذي تتحكم فيه واشنطن وطهران. ومن حقنا، في كل الأحوال، أن نقلق من تداعيات ما سيجري سلماً أم حرباً، خاصة إذا ما قامت الحرب عمداً أو بسبب الحسابات الخاطئة. وكأنَّ قدرنا أن نكون الحلقة الأضعف في معادلة الأمن الخليجي، وأن يبقى أمننا مرتهناً بما تقرره الإدارة الأميركية، أو حُكام إيران بسياساتهم وحساباتهم الخاطئة، ومواقفهم المستفزة والمهددة لأمننا واستقرارنا، سواء في ذلك بملفها النووي، أو بالتهديد بإغلاق مضيق هرمز، أو حتى التشكيك في شرعية وديمومة أنظمتنا، هذا طبعاً دون إغفال ما تقوم به في العراق. والمطلوب الآن أولاً، موقف خليجي واضح لسيناريوهات المستقبل وكيفية التعامل مع إيران النووية. ثانياً، موقف خليجي محدد يدعم تصريحات الشيخ محمد الصباح وعبدالرحمن العطية حتى لا تبقى تصريحاتهما الدبلوماسية بلا صدى.