ينتقل الوضع الفلسطيني من مأزق إلى آخر, وتتسابق المآزق في مشهد سريالي للإجهاز عليه! وكلما اقتربنا من نهاية هذا العام زاد تجمعها وحثّها الخطى. فمع أواخر هذه السنة هناك نهاية الولاية الرئاسية لجورج بوش ونهاية السنة الموعودة بعد مؤتمر أنابوليس. ومع خواتيمها أيضاً يتبخر وعد بوش للفلسطينيين بإقامة الدولة الفلسطينية في عهده. ذاك أن ما بقي على الوعد مجرد شهور قليلة. كما أن السنة التي كان من الُمفترض أن تنتهي بحل شامل تقارب هي الأخرى نهايتها. أكثر المتفائلين لا يتوقع أخباراً تفاجئ الجميع أو تقلب طاولة التوقعات. واقعياً وفلسطينياً الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ. على الصعيد الداخلي يتكرس الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة, وكل أسبوع يمر على هذا الانقسام يؤخر شهراً في التخلص منه. وعملياً وواقعياً تقل احتمالات إعادة توحيد الوطن كما كان. فبعيداً عن الشعارات والكلمات المنمَّقة التي تصدر هنا أو هناك فإن ما يحدث على الأرض هو تعميق كيانين منعزلين سياسياً وجغرافياً ومالياً وأخلاقياً وسلوكياً أيضاً. وأحد المآزق القادمة بسرعة والتي تواجه الوضع الفلسطيني هو مسألة نهاية ولاية الرئيس عباس في 9 يناير 2009، وبالتالي, وبحسب القانون الفلسطيني, يصبح رئيس المجلس التشريعي (أحمد بحر من "حماس" في غزة) رئيساً للسلطة الفلسطينية لمدة ستين يوماً يتم إجراء انتخابات رئاسية خلالها. إلى حد الآن أعلنت "حماس" رفضها الاعتراف بالرئيس عباس بعد يوم واحد من تاريخ انتهاء ولايته. ما معنى هذا الرفض وما هي السيناريوهات التي تنتظر الفلسطينيين في الشهر الأول من العام القادم إذن؟ السيناريو الأول, والمتفائل جداً, هو أن تتم معجزة ما وينجح الحوار الوطني وينتج عنه تشكيل إما حكومة انتقالية أو حكومة وحدة وطنية تكون إحدى مهماتها الإشراف على انتخابات رئاسية في الضفة الغربية والقطاع ونتفادى جميعاً مأزق الفراغ الدستوري. والسيناريو الثاني هو أن تبقى الأمور على ما هي عليه فتعلن "حماس" عن عدم اعترافها بعباس رئيساً, فيما يُصار في الضفة الغربية إلى استصدار فتوى قانونية تجيز تمديد ولايته الرئاسية إلى موعد الانتخابات التشريعية القادمة. وفي هذه الحالة سترفض "حماس" هذه الفتوى بالطبع, وتعمد إلى التشبث بالقانون وتعيين أحمد بحر رئيساً للسلطة الفلسطينية، لكن مقيماً في غزة. وبكونه مقيماً هناك وبكون "حماس" مقاطعة من الأطراف الدولية فإن ذلك معناه أن الانقسام الفلسطيني سيتطور إلى مرحلة "متقدمة"، وهي أنه بالإضافة إلى وجود حكومتين منفصلتين فسيصير للفلسطينيين- وهم لا يزالون تحت الاحتلال- رئيسان أيضاً. لن تتمكن "حماس" بطبيعة الحال من إجراء انتخابات رئاسية في الضفة الغربية وقطاع غزة خلال ستين يوماً، وسيتم استصدار فتوى قانونية في غزة تمدد لرئيس المجلس التشريعي, ثم بعد ذلك ربما لن يكون هناك مناص سوى إجراء انتخابات رئاسية في قطاع غزة فقط. وأياً ما كان الاتجاه الذي سيسير فيه هذا السيناريو فإنه بالغ القتامة ويعمق الانقسام الحالي. السيناريو الأول هو ما يتمناه الجميع ربما, لكنه غير محتمل كما تشير المعطيات على الأرض. ويبقى أمامنا السيناريو الثاني المخيف وكيفية تفاديه. وما تحمله هذه السطور مُقترح إلى أعضاء المجلس التشريعي في قطاع غزة, وهو التخلي عن فكرة رفض التمديد لرئاسة "أبومازن" لتصل إلى موعد الانتخابات التشريعية, بل والإقدام على عكس ذلك تماماً: أي أن تعمل "حماس"، وكإشارة على حسن النية وعدم جر الأمور إلى الصدام الأخير وتفادي كسر العظم وحرصاً على المصلحة الوطنية، على استصدار موافقة من قبل المجلس التشريعي وفتوى قانونية تجيز التمديد الرئاسي حتى يناير 2010 موعد الانتخابات التشريعية القادمة (أي سنة كاملة). وهناك مسوغات وطنية عديدة لاعتماد هذه الخطوة لا تخفى على عاقل. فالوضع الفلسطيني في أسوأ أحواله الآن وسيتجه نحو المزيد من السوء إذا انتهينا برئيسين أيضاً. كما أن فكرة التشبث الحرفي بالقانون وكأنه قرآن مقدس مثيرة للتساؤل فعلاً, فالقانون تم ويتم الدوس عليه قياماً وقعوداً من قبل كل الأطراف, ولا يُعقل أن نرى الكارثة قادمة نحونا ونبرر ذلك بالقانون، وخاصة أن هناك إمكانيات قانونية للتعامل مع ما هو قائم وإيجاد حلول تحترم القانون لكن لا تجعله سيفاً آخر على عنق ما تبقى من احتمالات وحدة الوطن. ما يجب أن تدركه "حماس" هو أن عليها تفادي خوض معركة يخسر فيها الجميع كهذه, بل عليها أن تحولها من معركة خاسرة إلى مدخل للكسب الوطني عندما توجه كتلة "حماس" في المجلس التشريعي نحو التمديد لـ"أبومازن"، عندها فإن الحركة تظهر بصورة الحركة المسؤولة، التي عينها على المصلحة الوطنية, وليس بصورة التنظيم الانتهازي الذي يقدم مصلحته الحزبية على المصلحة الوطنية. ولتعلن بالصوت العالي والعريض أنها تقوم بذلك من أجل الوحدة الوطنية وليس من أجل "أبومازن", أو أن تقول ما تشاء. و"حماس" تعلم أن الوضع الفلسطيني هش إلى درجة كبيرة، ولا يحتمل أية إرباكات جديدة من الوزن الثقيل من حجم دخول هذا الوضع في نفق مماحكات قانونية مظلمة ينتهي الفلسطينيون بسببها إلى حالة فراغ رئاسي كما حدث في لبنان, ولكن في الحالة الفلسطينية سيكون الوضع أكثر سوءاً بسبب الانقسام الجغرافي والديموغرافي وسيطرة الاحتلال الإسرائيلي على الطرفين. أو ينتهي الفلسطينيون إلى حالة أكثر شذوذاً بوجود رئيسين واحد في الضفة الغربية والثاني في قطاع غزة. في لحظات الصدام العصابية تنشد الممارسات والتصريحات والمواقف لأن تسابق بعضها بعضاً في التوتر والتطرف والهوج, ويكون المنطق والهدوء أول الضحايا. والصراع الفلسطيني الحالي واحد من أكثر الأمثلة تجسيداً للعصابية الحزبية في أسوأ تمظهرها. لذلك ليس من الإبداع ولا البطولة توسيع وتمديد سياسات التوتر وإطلاق التصريحات العنترية والهوجاء. إذ يعلم كل من الطرفين علم اليقين أنه من المستحيل على أي منهما إلغاء الطرف الآخر, ولا سبيل إلا الحوار, أو الانقسام النهائي والمطلق بين كيان في الضفة وكيان في غزة. فإن كانت هناك بقايا رغبة حقيقية في توحيد ما انقسم فإننا ننتظر من "فتح" و"حماس" من يلعب دور "أم الولد", الأم التي عندما نافستها امرأة ثانية على أمومتها لابنها وقضى القاضي بأن يُشطر الولد إلى نصفين يذهب كل نصف إلى واحدة من المتنافستين, تخلت "أم الولد" عنه لغريمتها على ما في ذلك من ألم ومرارة, لكن لأنها كانت أكثر رأفة بابنها, ولأنها الأم الحقيقية. من لحظة الصدام الأولى بين "فتح" و"حماس" والشعب الفلسطيني ينتظر ليرى من سيكون "أم الولد" حقاً, الولد ينشطر شيئاً فشيئاً وبالتدريج ونحن نسابق الزمن كي لا يصبح نصفين لا سبيل إلى لحمهما, وكل من الأمَّين تتردد في لعب الدور المنتظر.