"لوثر" في مواجهة "الصليبية"!
ثمة صفحة في تاريخ المصلح "لوثر" ظلت خفيّة عن أنظار عدد كبير من الباحثين العرب والمسلمين، وهي صفحة مجيدة حقاً، وتندرج في خانة الفكر الديني الإنساني والكوني. والمسألة تبدأ في عام 1932. وبكلمات لوثر: "لقد حدثني أحدهم وهو ثرثار كان ضمن البعثة الألمانية، التي ذهبت إلى تركيا عام 1532، فقال لي بأن السلطان سأل عن شخصي وعن عمري، وجواباً على أن عمري- أي لوثر- ثمان وأربعون عاماً، عقب السلطان- وكان عمري 38 عاماً- قائلاً: أردت لو أن لوثر كان أكثر شباباً، ذلك أنه كان ينبغي أن يجد فيَّ- في السلطان- سيداً كريماً" (ضمن: Gerhard Konzelman Die Islam Heraus Fordernng, 1985)، وقد أضاف مؤلف هذا الكتاب أن السلطان حين أعلن ذلك، كانت فيينا وألمانيا ضمن المطامح الكبرى، التي هدف إلى الاستيلاء عليها، مع الإشارة إلى أن الأولى (فيينا) كانت تحت الحصار التركي منذ ثلاث سنين.
انطلق مارتن لوثر من معطيات عصره، حين كون موقفاً مركباً من البابا في حينه، ومن العنف تحت ستار الدين. لقد كان ضد الأول المهووس في تحويل المسيحية إلى منصة عسكرية تنطلق منها وباسمها "الحروب المقدسة". وكان ضد العنف، لأن هذا مناقض لتعاليم المسيح القائمة على احترام السلم والتوافق البشري. وفي هذا، ربما كان لوثر واحداً من أوائل وكبار المناهضين للحروب، التي تُشن باسم الدين المسيحي: ليس في ذلك- حسب رأيه- موقف مزوِّر لهذا الأخير فقط، وإنما هنالك- كذلك- امتهان لكرامة الكائن الإنساني عبر استباحة دمه، الدم الرمز الذي سُفح من جسد المسيح.
لقد عوّل لوثر على الإيمان، قبل أن يعول على المصالح المادية والحروب العسكرية، وبهذا استطاع أن ينتزع من البابوية معقل قوتها وهيمنتها. ومن المهم القول إن الرجل كان قد بذل جهوداً كبرى في سبيل إنتاج قراءة نقدية جديدة لـ"النص المقدس" تستجيب للمطامح الجديدة في التحرر والتنوير والإنسانية، وها هنا بالضبط تجد نفسها الخطوة الكبرى، التي أنجزها لوثر، حين قرر تنفيذ فكرة فذة أتت استجابة لاتجاه تأسيس أوطان ودول ذات خصوصيات وطنية وثقافية ولغوية وغيرها، بدلاً من إمبراطورية بابوية تلتحق بها كل الشتات الواقعة تحت هيمنتها. أما الفكرة، فهي شرعية وضرورة ترجمة "الكتاب المقدس" إلى اللغات المحلية الوطنية، ومنها الألمانية، بعد أن هيمنت اللغة اللاتينية في كل تلك الشتات.
كان الخط الديني الإصلاحي "اللوثري" يبحث عن التغيير الديني والاجتماعي والسلطوي والثقافي... الخ في حركة بطيئة لا تستدعي انتفاضة ولا ثورة ولا عنفاً، على العكس مما كان يسعى إليه مواطنه ومعاصره T.muentzer، الذي مثل جمهور الفلاحين الأقنان وخرج منهم، فهذا كان يدعو إلى الحزم في مواجهة المجتمع القديم ومَنْ راح يدافع عنه مِنْ أوساط الطبقة الأرستقراطية، ويمكن النظر إلى لوثر على أنه المنظّر للإصلاح الديني الأوروبي الحديث، مع احتمال المساومة السياسية مع أركان تلك الطبقة، في حين أن "مينتسر" كان حازماً في موقفه، بحيث قاده إلى نتائجه المنطقية: حروبه الفلاحية، مع الإشارة إلى أن لوثر اتُهم، مع غيره، بأنه من مُشعلي تلك الحروب.
لم يكن مارتن لوثر، والحال كذلك، داعية مصلحاً مُسالماً سلبياً، بل أخذ مواقف كبرى كان يُنظر إلى من يقترفها على أنه خائن الرب والبابوية، وقد تجلى ذلك خصوصاً في موقفين اثنين، يبرز أولهما في مناهضة الحروب الصليبية ضد العرب والمسلمين، في حين يُفصح الثاني عن نفسه في اتهامه بأنه سوّغ- في إصلاحه الديني- إمكانية قبول الإسلام ديناً، وربما نجد في ذلك كله بعض تأثير مارسه على محمد عبده وغيره.
تلك صفحة مهمة تاريخياً ودينياً إصلاحياً يقدمها لوثر، ولابد من أن يأخذها الباحثون العرب في سياق التأسيس لإصلاح ديني إسلامي ضمن المشروع العربي.