تتفاوت الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في دول مجلس التعاون من حيث طبيعة الحراك الشعبي ورؤية المجتمع لذلك الحراك! فهنالك دول يبدو الحراك الشعبي فيها واضحاً! ويستتبع ذلك بروز نشاط مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات والاتحادات، وكذلك نسبة مساحة حرية الرأي. وهنالك دول مازال الحراك الشعبي فيها يأتمر بأمر الحكومة! فمتى أرادت الحكومة تقديم الديمقراطية مثلاً- على طبق من ذهب- صفَّق الجميع وهبّت وسائل الإعلام تهلل لذلك الحدث، وبالتالي يتسع "صدر" الرقابة على وسائل الإعلام، حيث نلاحظ مقالات وبرامج إذاعية وتلفزيونية- لم يألفها المجتمع من قبل- تنتقد المؤسسات والأفراد الرسميين إلى درجة ملحوظة! كما يتم الإعلان عن حالات فساد أو سوء تخطيط أو تنفيذ إداري، ويتم أيضاً تقديم "المفسدين في الأرض" إلى المحاكم. وهنالك دول أخرى مازلت تستفيء بظل العلاقة التقليدية بين الحاكم والرعية. ومازالت المجالس مفتوحة للشكاوى والمقابلات و"الشرهات" أيضاً! ولكن دون الاقتراب من "المُنازعة" على الحكم! أو الشراكة التي تحتمها المواطنة الصالحة! أو المطالبة بالديمقراطية- "هذه الآفة التي تخرّب أخلاق شعوب العالم الثالث"- أو المطالبة بالإشراف على المال العام.. كيف يأتي وكيف يذهب؟! أو حتى الانتخابات الحرة المباشرة! وتحبذ هذه الدول أن تستمر المسيرة "المظفرة" على ما هي عليه، ولا داعي للتسرع أو "تثوير"- من ثورة وليس من ثور- المجتمع المسالم الآمن، الذي يَقبل بما تمدهُ يدُ الدولة الكريمة! ويحمد الله على النعمة والخير الكثير، ولسانه يلهج بالدعاء للخالق بأن "الله لا يغيّر علينا"! ونلاحظ على إعلام مثل هذه الدول أنه يقدم وجهة نظر واحدة! فكل المؤسسات ناجحة، وكل من تختارهم الدولة من المسؤولين أكفاء وحافظون للأمانة و"يشتد بهم الظهر"، وهم لا يخطئون ولا يسرقون ولا يظلمون الناس! ومثل هذا الإعلام لا يسمح بتكوين رأي عام صادق تجاه ما يجري على الأرض! ونجد هذا الإعلام مغرَماً بنشرات الأخبار التي تركز على نشاطات المسؤولين واستقبالاتهم الرسمية، وكذلك المواد الترفيهية التي تساعد على راحة البال وتغيِّب العقل. وكذلك المواد الرياضية التي أصبحت تفرد لها قنوات خاصة في المنطقة، وتبعتها في ذلك قنوات التراث! ولسوف تشهدون غداً أن العائلات سوف تفتح قنوات فضائية تمجّد هذه العائلة أو تلك، وهو تمهيد -لربما- لفزعات إعلامية وقت الانتخابات! ولسوف تتعجبون من استخدام هذه التكنولوجيا المتطورة في مواضيع لا تمت بصلةٍ إلى الحضارة أو المضامين التي يجب أن تحمل مسؤولية التنوير في المجتمع الخليجي. بل ولسوف يتم استخدام هذه القنوات في الترويج القبلي، وبعض الهوايات التي ليست بالضرورة مهمة في حياة الإنسان! وفي ظل هذا التفاوت، يسقط ضحايا المطالبة بالتحديث أو التطوير في المنطقة. وتظهر بالتالي ألفاظٌ ومفاهيم عديدة -ليست ذات دلالات حقيقية- فمثلاً عند بعض الدول نجد أن أهل الرأي لديهم مكانة لدى صاحب القرار سواء في المؤسسة السياسية أم في المؤسسات الاجتماعية. ونجد الترحيب بآرائهم في الصحافة أو الإذاعة والتلفزيون، وبكل عدالة. وعند دول أخرى نجد نظراء لنفس المجموعة التي تنشد التطوير والتحديث ومحاربة الفساد، وتحقيق المواطنة الصالحة، نجدهم يوضعون في القائمة السوداء، ويتم نعتهم بالمشاكسين أو المعارضين أو "أهل السوء" وهم ليسوا كذلك! وطبقاً لذلك التصنيف، تتم محاصرة هؤلاء المصلحين ويتم توجيه الجهات الرسمية بعدم إشراكهم- حتى في العمل التطوعي- ناهيك عن إقصائهم وظيفياً وأكاديمياً ومهنياً! وتلك حالة غير صحيَّة في دول تحاول الانفتاح على الآخر، وتسعى الى تحديث شعوبها ووضعها في مصاف الشعوب المتطورة! هنالك إشكالية في نهج التفكير الذي يؤسس للممارسة السياسية التي تخترق أحياناً العديد من الحقوق المدنية، ومخالفة الدساتير والقوانين المفسرة لها. وهنالك ثقافة "التخوين" عند البعض، وأي صوت يرتفع -في الإعلام- يحمل وجهة نظر مغايرة لما يقوله المدير أو المسؤول فهو صوت "الشر" وصاحبه حاقد أو "مختل" عقلياً أو "منحرف" سلوكياً، وبالتالي تصدر الأوامر بعزلهِ عن الحياة العامة، وحقن الموت في عروقه بواسطة تكريم وهمي أو إقصاء بائن، دونما اعتراف بكل ما قدمه لوطنه من كفاءة وإنجازات وبكل ما قام به لخدمة مجتمعه! والإشكالية أيضاً في بعض الدول التي لا تعترف بآراء المهنيين والأكاديميين، وجود جفوة مختلفة بين الأنظمة وهؤلاء الأكاديميين والمهنيين، على رغم أن هذه الدول بحاجة ماسة إلى آراء وكفاءات هؤلاء -وهم أفضل بكثير من الأجانب محدودي الخبرة الذين يتقافزون حول الوظائف الكبيرة في تلك الدول- لكن "ضيق الصدر" والحاشية يخلقان تلك الجفوة، ويتم تصوير هؤلاء المصلحين على أنهم معادون للنظام أو لنقل "معارضة"، وهم بالطبع ليسوا كذلك! إننا نعتقد أن الوقت قد حان لحل هذه الإشكالية! فالمفكرون وأهل الرأي الخليجيون لا يعادُون الأنظمة، وليس في وارد تفكيرهم أو عقولهم الانقضاض على الحكم! أو بث الفرقة بين أفراد المجتمع، إن هم أبدوا ملاحظات من صميم تخصصاتهم! فالناشطون الحقوقيون إن طالبوا بتحديث الدساتير أو القوانين، فإنهم يخدمون المجتمع وهم نتيجة حتمية للتنمية التي ترعاها الدولة! والإعلاميون الذين تخصصوا في هذا العلم ودرسوه سنين عديدة، قد يؤلمهم انزياح الإعلام عن دوره الحقيقي، وتصويره لأبناء مجتمعات الخليج على أنهم يتعطَّرون بالبترول ويستنشقون الغاز، ويركبون السيارات الفارهة ولا حاجة لهم إلى أن يعملوا في الوظائف، بل يتم استيراد موظفين وموظفات لخدمتهم! وهذا قول جائر، وغير حقيقي! إن المطالبة بـ"عقلنة" الإعلام ليهتم بقضايا الأمة محلياً وخارجياً، أو ليحقق في قضية مهمة تلتصق بحياة المجتمع، أفضل بكثير -لدى العقلاء- من إضاعة وقت البث في الأغاني والرقصات وبرامج الحوار التي لا تأتي بنتيجة! كما أن التغريب الذي يعيشه مجتمع الخليج يجب أن يتوقف، وأن تركز البرامج على الأفكار التي تنمي روح الانتماء والمواطَنة، والتعايش المتآلف بين أفراد المجتمع! كما أن المطالبة بتحديث الرؤى والتحقيق فيما يجري في الجامعات الخليجية التي يعاني بعضها ظروفاً صعبة، حيث يتم التخوين والإقصاء للكفاءات الخليجية -دون مبررات- أو تهم! ولئن قام كاتب خليجي بطرح هذا الموضوع في الصحافة تقوم الدنيا عليه، وكأن الجامعات الخليجية جزء أو فرع من الفاتيكان أو حرم مقدس لا يجوز الحديث فيه! وأن جميع من فيه من الإداريين والأكاديميين من "الملائكة"، وينطبق ذات الشيء على المؤسسات الأخرى الطاردة للنماذج الكفؤة، والحاضنة للنماذج المتواضعة من كل حدب وصوب! لذلك، فنحن بحاجة إلى فتح قنوات الاتصال، وتفهم طبيعة الحراك في المجتمع الخليجي، ولعل أول وأهم ما نحتاجه هو "وساعة الصدر" وعدم التفرقة بين المفكر والمُصلح لمجتمعه، وبين الذين نستمع إليهم صباحاً ومساءً!