لعل محمود درويش واحد من أهم من أعطى الثورة الفلسطينية، وجهها الإنساني، وقد قال يوماً قبيل إحدى أمسياته الشعرية، إن الثورة الفلسطينية هي ثورة مقاتل وشاعر وفنان وطبيب ومهندس، والبندقية دون ذلك ستكون بندقية "قاطع طريق". وغياب درويش يأتي في أكثر اللحظات التي يحتاج الفلسطينيون فيه لتأكيد البعد الإنساني في نضالهم، ويحتاجون للنضال الاجتماعي العام بجانب أنواع النضال الأخرى، فرحيل درويش يأتي في فترة يتلاحق فيها رحيل القادة المؤسسين للثورة الفلسطينية، ممن صنعوا "الكيانية الفلسطينية" الخارقة للمنافي والشتات، فعدا القادة من المقاتلين والسياسيين، من أمثال ياسر عرفات، وجورج حبش، رحل في السنوات الأخيرة مفكرون وأكاديميون وفنانون، منهم إسماعيل شموط، الذي أسس مع رفيقة حياته، تمام الأكحل، مدرسة متميزة ضمن الفن التشكيلي العالمي، تمزج الأصالة والروح العربيتين مع تقنيات عالمية، بما في ذلك استخدام شموط للكمبيوتر في بعض أعماله. كذلك رحل قبل سنوات الأكاديمي الفلسطيني إبراهيم أبولغد، الذي آثر العودة لفلسطين وترك الجامعات العالمية ليعمل بصمت في التعليم الجامعي في فلسطين وينهي حياته هناك، ورحل إدوارد سعيد، الذي أسهمت كتاباته وخصوصاً كتابه "الاستشراق" في إحداث تحول فكري كامل في تعاطي الأكاديميين الغربيين مع العرب والمسلمين وقضاياهم. يرحل درويش في سن أصغر من هؤلاء المؤسسين، فعندما كان يعيش طفولته، كان هؤلاء وغيرهم قد قطعوا شوطاً في نضالهم، (أي بعد نحو 10 أعوام من النكبة)، ولعل بعض قصص "الثنائي" شموط والأكحل تختزل الكثير من قصة تلك الثورة. فتمام تعرفت على إسماعيل في القاهرة، أثناء الدراسة الجامعية نهاية الخمسينيات، وممن قدّمهما لبعضهما بعضاً بهدف العمل معاً في الفن التشكيلي "النضالي"، شخصيات وطنية منها ياسر عرفات، الذي كان ضمن قيادة الطلبة الفلسطينيين في مصر، وتنبه فلسطيني آخر لعملهما، هو نبيل شعث، الذي كان ضمن قيادة الحركة الطلابية الفلسطينية في الولايات المتحدة، فنظّم معرضاً لهما هناك. وتكشف ردة الفعل الصهيونية على ذلك المعرض أهمية عملهما، فقد بدأ الصهاينة حملة لوقف المعرض، وفوجئ الفنانان بأن أحداً لا يحضر الافتتاح، وعندما خرجا من قاعة الحفل اكتشفا السر، فقد كان ناشطو الحركة الصهيونية يرفعون يافطات تقول إن المعرض تأجل لإشعار آخر، فكان من يأتي يعود أدراجه، وتم إعلان موعد جديد للمعرض مع احتياطات منعت تكرار ما حصل. للوهلة الأولى يبدو الفلسطينيون وقد ودَّعوا جيل العمالقة ذلك، وأغلب أفراده كانوا بشكل أو آخر ضمن أطر منظمة التحرير الفلسطينية، ويبدو المشهد خالياً من فلاسفة السلاح، وعباقرة الأدب والفكر والفن والعلم، لصالح المتناحرين على السلطة، الذين يدمرون نسيج الكيانية الفلسطينية ويدمرون الإنسان الفلسطيني. وهناك ما يبرر هذه الرؤية، فالجامعات الفلسطينية مثلاً لم تعد مؤسسات لرفد مجتمع ثوري مناضل بطاقاته البشرية، وتعاني مراكز الأبحاث والمؤسسات الأدبية والفنية واتحادات الطلبة والكُتّاب الفلسطينية من أمراض الترهُّل والبيروقراطية والفصائلية. على أن كل هذا لا يلغي أن الطاقات الفلسطينية والمبدعين الفلسطينيين، موجودون وبكثرة في مختلف المجالات، ودون الدخول في عملية تعداد الأسماء يمكن إيراد أسماء شركات وجامعات أعرف أو صادفتُ مبدعين فلسطينيين في مواقع قيادية بارزة فيها، مثل مايكروسوفت، وجامعات كولومبيا، وميتشيجان، وكيمبردج، وأكسفورد، وكنغز كوليج في لندن، وأدنبرة، ومؤسسات مثل البنك الدولي. وبعض هؤلاء متخصصون، في قضايا الصراع العربي-الإسرائيلي، ومنهم من كان مرتبطاً يوماً بمنظمة التحرير وأطر الحركة الوطنية الفلسطينية المنظمة، ولكن جميعهم الآن تقريباً، بلا أي رابط من هذا النوع. الكفاءات الفلسطينية موجودة في كل مكان، لكن دون أي إطار يجمعها ويوجه طاقاتها، وبات صراع "فتح" و"حماس"، وشلل منظمة التحرير، بمثابة عائق يمنع اجتذاب هذه الطاقات، ويمنعها من تطوير بديل حتى لا تتهم بمنافسة المنظمة أو السعي الى إيجاد قيادة بديلة، وبالتالي فإن أدوات النضال والإبداع التي يجب أن تظهر الوجه الحقيقي الثوري الإنساني للشعب الفلسطيني تتوارى وسط هذا المشهد. هذا الواقع يؤكد الحاجة للتفكير بشمولية واسعة، في متطلبات النهوض الفلسطيني بعيداً عن ضيق أفق ومصالح القائمين على الاقتتال الداخلي، وبالنظر إلى أدوات النضال المتعددة المنظمة والمنسقة.