أكثر من الحلال والحرام
لدى بعض الناس ميزان لا يعرف إلا المعروف والمنكر أو الحلال والحرام أو الأجر والذنب، لكن لا يمكن تقسيم الأقوال والأفعال بتلك الثنائيات فقط، فهناك الأخلاق والأدب والذوق والعُرف والصالح العام وغيرها من أمور لا تدخل ضمن الحلال والحرام مباشرة ولا يمكن قياسها بذلك الميزان.
فمثلاً الوقوف بالسيارة في مكان ممنوع ليس حلالاً لكنه في الوقت نفسه ليس حراماً شرعاً، فليس هناك نص ديني أو فتوى شرعية تمنع ذلك، لذلك تجد أن الفوضى لها الكلمة العليا في الكثير من شوارع البلاد الإسلامية. وإلقاء المخلفات في المنتزهات وعلى الشواطئ لم يرد في منعه نص واضح، وإنما هناك عموميات إسلامية في المحافظة على النظافة، لذلك من الطبيعي أن تجد دول المسلمين من أكثر الدول التي تتنافس فيما بينها على عدم النظافة. واحترام أبناء الديانات الأخرى لا أجر فيه ولا ذنب، وعند بعضهم أن عدم احترامهم أولى! وعدم إنجاز العمل بدقة وإتقان ليس من المعروف ولا هو من المنكر، فليس هناك سوى حديث أو حديثين يحثان على إتمام العمل وإتقانه.
قياس الأمور بذلك الميزان يجعل بعضنا لا يراعي إلا ما كان حلالاً أو حراماً، وحتى الحرام يمكننا فعله ما دام في العمر بقية، وسلاح التوبة في أيدينا، وكرم الشفاعة في الآخرة ينتظرنا، أما إذا لم يكن الأمر ضمن خانة الحلال والحرام، وفق ذلك الميزان بالطبع، فإننا نبقي الخيار في أيدينا، نفعل أو نمتنع، فإذا امتنعنا فهذا فضل منا، وإذا فعلنا فـ"عادي"، خصوصاً إذا كانت يد القانون بعيدة عنا وعيناه لا ترانا، أو كان القانون أصلاً لا يجرّم ذلك الفعل والسلطات لا تعاقب عليه. بل إن بعضنا لا يبالي ويضحك عندما يخرق القوانين الوضعية التي تنظم حياتنا والعلاقات فيما بيننا، لأنها ببساطة "وضعية" ومن صنع البشر وليست مُنزلة من السماء السابعة.
ليست هناك طريقة لإقناع هؤلاء بأن الحياة ليست حلالاً وحراماً فحسب، سوى تذكيرهم بمنطق الفقهاء، فهم يحلّلون ويحرّمون ما لم يرد فيه نص واضح بناءً على الأصل العام، كتحريم التدخين لأنه في نظرهم يدخل ضمن الأمور التي تؤدي إلى التهلكة، وتحريم بعضهم للموسيقى بكل أنواعها باعتبارها من لهو الحديث، بل إن بعضهم يعطي اللاعب المصاب في الملعب أثناء وبسبب المباراة الحق في إلحاق الأذى نفسه باللاعب الذي تسبب في إصابته، وفق مبدأ "العين بالعين والسن بالسن". لذلك، وقياساً على منطق هؤلاء الفقهاء، فإن لكل فعل، مهما كبر أو صغر، وجهاً شرعياً ويمكن أن يكون حلالاً أو حراماً بطريقة أو بأخرى.
هذا بالطبع للذين لا يستطيعون التحرك في الحياة من دون الرجوع إلى ذلك الميزان، فلغيرهم ميزان آخر، وهو الميزان الرقمي الحسّاس الذي يتعامل به الصاغة، فلا يرون أقوالهم وأفعالهم حلالاً وحراماً فحسب، وإنما هناك صواب وخطأ.