"اصطياد" الرؤساء... وسد الذرائع
كلما طالت الرؤوس أو تطاولت سهُل اقتطافها بتعبير الحجَّاج الشهير. وكلما طالت السيقان كي ترفع الرؤوس سهل انتزاعها من الأرض لضعف جذورها. ولماذا تطول الهامات وكلنا لآدم وآدم من تراب؟ (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ), (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً).
وتلك حال بعض النظم التسلطية التي تقوم على حكم الطرف الواحد والتركيز عليه. وهو ما سماه ابن رشد في تلخيصه لـ"جمهورية أفلاطون" (الضروري في السياسة) وحدانية التسلط. تطول قامة الحكم وتصغر قامات الناس، الزعيم والأقزام، "طرزان" وعامة الناس، "زيوس" والبشر، سواء كانت بعض هذه الزعامات تجسيداً لروح الشعب ولأمانيه القومية كما كانت الحال في الخمسينيات والستينيات في مرحلة التحرر الوطني، أو كانت تسلطية قهرية كما كانت عليه الحال في مرحلة ما بعد الاستقلال وبناء الدولة الحديثة وضعف مؤسسات الدولة باستثناء أجهزة الأمن والشرطة وتحولها من الدولة الوطنية إلى الدولة الأمنية، وهي المرحلة التي عاد فيها الاستعمار من جديد لاسترداد ما ضاع منه باسم العولمة أو العالم ذي القطب الواحد.
وقد أدى هذا الوضع الداخلي والدولي إلى إعطاء الاستعمار الجديد وقوى الهيمنة الكبرى بزعامة الولايات المتحدة الأميركية ذريعة للقضاء على النظم التسلطية بدعوى الديمقراطية بعد انهيار المنظومة الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفييتي الذي كان يساند نظم حكم الفرد مادامت حليفة له أو متعاونة معه. فالليبرالية أصبحت هي النظام العالمي الأوحد. والرأسمالية العالمية تجدد نفسها في الشركات المتعددة الجنسيات ومجموعة الثماني الأكثر تصنيعاً. ووجد هذا الوضع صداه لدى الشعوب المقهورة التي تتوق إلى حرية الفرد وديمقراطية الحكم. فاغتر البعض بطُعم الديمقراطية الأميركية التي كانت تهدف إلى القضاء على الدولة الوطنية واستقلالها، وتشجيع القطاع الخاص على حساب القطاع العام بدعوى الليبرالية الاقتصادية كشرط أو نتيجة لليبرالية السياسية، وتكوين طبقة رأسمالية جديدة لحكم قادم, له شعبية يقوم على دعامتين، الحركة السياسية التي مازالت تؤمن بالاقتصاد الحر الذي دعامته التجارة, والليبرالية التقليدية التي كانت سائدة قبل الثورات.
وتتعدد طرق اصطياد الرؤساء أو قطع الرؤوس أو حصد الزعماء. هناك طريقة الغزو العسكري المباشر تحت دعاوى عديدة: القضاء على الإرهاب، أو نزع أسلحة الدمار الشامل، ثم القبض على الرئيس ومحاكمته وإعدامه شنقاً كما حدث في العراق. وهي الطريقة نفسها التي اتبعت في غزو سان دومينجو في الخمسينيات, وإنزال القوات الأميركية في لبنان في 1958. وهي الطريقة نفسها التي اتبعت في العدوان الثلاثي على مصر في 1956 للتخلص من عبدالناصر الذي أمَّم قناة السويس!
وهناك طريقة الاغتيال بغارة جوية كثيفة على مقر الرئاسة بطائرات تنطلق من القواعد الأميركية في أوروبا كما حدث في العدوان على ليبيا. فلما فشل تم حصارها عدة سنوات بحراً وجواً. وهناك طريقة نرييجا وخطف الرئيس بالهليكوبتر بتهمة تجارة المخدرات، وأميركا أكبر دولة مستهلك لها. وهناك طريقة "ديم" في فيتنام وتدبير انقلاب عليه للتخلص منه بعد أن استنفدته. وهي الطريقة نفسها التي اتبعت في التخلص من أليندي في تشيلي، والتي اتبعت عدة مرات للتخلص من كاسترو منذ محاولة غزو كوبا فيما سمي بحرب خليج الخنازير في عهد كنيدي في أوائل الستينيات.
وهي طريقة انتقائية محضة تطبق في حالة دون حالة. فعلى رغم وجود نظم شمولية قبل انهيار المنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية ثم في الاتحاد السوفييتي ذاته إلا أنه لم يحدث عدوان عليها مثل نظام ميلوسوفيتش في صربيا، وترك كاراديتش رئيس الوزراء، وميلاديتش رئيس الجيش في صربيا يذبحان عشرات الآلاف من المسلمين في البوسنة والهرسك خاصة في سريبرنيتشا وحدها التي راح فيها سبعة آلاف من المسلمين قبل تدخل قوات حلف شمال الأطلسي. وترك بينوشيه في تشيلي الذي قضى على الآلاف من اليساريين بين القتل والتعذيب في السجون، وترك باتسيتا في كوبا قبل ثورة كاسترو عليه. ويُضطهد المعارضون في كل مكان, ويزج بهم في السجون والمعتقلات, ولم تحرك الولايات المتحدة الأميركية ساكناً لصداقتها مع نظم الحكم أو الزعماء.
وأخيراً هناك طريقة استعمال محكمة الجزاء الدولية لإصدار قرار بإلقاء القبض على الرئيس بتهمة قتل المواطنين بالآلاف كما يحدث هذه الأيام في السودان. ليس حباً في دارفور ولكن لاستمرار تنفيذ مخطط تجزئة الوطن العربي إلى فسيفساء طائفية عرقية كي تصبح إسرائيل أكبر دولة طائفية عرقية في المنطقة, تأخذ شرعية جديدة من طبيعة الجغرافيا السياسية للوطن العربي والعالم الإسلامي بعد أن تهاوت أساطير "المعاد" و"شعب الله المختار" التي كانت وراء تأسيس الكيان الصهيوني. ولا يكفي تقطيع السودان وانفصال الجنوب عن الشمال بل أيضاً انفصال غربه في دارفور وكردفان. وسكان دارفور عرب مسلمون، صحيح أنهم يعانون من الجوع والفقر والتخلف والتهميش أسوة بسوء توزيع الثروة والسلطة في كل الوطن العربي، في مصر بين "وجه بحري" و"وجه قبلي"، وفي دول المغرب العربي بين الشمال والجنوب، بين الساحل والصحراء. بل يحدث الشيء نفسه في الدول الأوروبية في إيطاليا مثلاً بين الشمال والجنوب، وفي روسيا بين الغرب القريب من أوروبا وسيبيريا في الشرق. وهي مسؤولية الحكم حين يركز على العاصمة التي بها الحكم الفرد. ولا عذر للحاكم أن يقتل الجيش جزءاً من مواطنيه أو أن يعتقل قادة ومسلحين بالآلاف. كما لا عذر للمواطنين للخروج بالسلاح على الحكم وشق الصف الوطني وتغذية روح الانفصال.
الحل هو الحوار الوطني بين أبناء الوطن الواحد، الحوار بين الحاكم والمحكوم، بين السلطة والمعارضة، بين الشمال والجنوب، بين الشرق والغرب، بين المركز والأطراف، من أجل إقامة حكم ديمقراطي حُر يقوم على التعددية الحزبية وحرية الرأي والانتخابات النزيهة من أجل تقاسم السلطة والثروة. وهو ما يتم الآن على استحياء باتفاقيات أكثر مما يتم بمشاركات شعبية ومشاريع وطنية للتنمية.
الحل هو الحكم الفيدرالي الذي يعطي للمركز قدر ما يعطي للأطراف, ويعطي السلطة المركزية قدر ما يعطي للسلطات المحلية. فالفيدرالية مظهر ديمقراطي للحكم عن طريق توزيع السلطة. "الدفاع" و"الخارجية" وحقائب سيادية أخرى مهمة في يد السلطة المركزية. أما باقي مظاهر الحكم مثل الاقتصاد والتعليم والصحة والثقافة والإسكان وباقي الخدمات ففي أيدي السلطات المحلية. وكلاهما يمثل الشعب ومسؤول أمامه. و"الداخلية" و"العدل" مشتركتان بين السلطة الفيدرالية والسلطات المحلية.
إن محاولة إصدار قرار من محكمة الجزاء الدولية لإلقاء القبض على رئيس جمهورية السودان وبصرف النظر عن الدوافع السياسية والأخطاء القانونية قد تكون بداية مصالحة وطنية عامة بين شرق السودان وغربه كما تمت من قبل المصالحة بين شمال السودان وجنوبه، (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وقد كانت "أخطاء" الحكومة اللبنانية السابقة بإقالة مدير المطار والسيطرة على شبكة اتصالات "حزب الله" بداية خير للمصالحة الوطنية, وانتخاب الرئيس اللبناني, واختيار حكومة جديدة. كما كان المشروع الأميركي- الصهيوني للبنان بداية إسقاطه من الدولة والجيش والشعب والمقاومة.
إن اصطياد الرؤساء بقوى خارجية بصرف النظر عن أوضاعهم الداخلية وصورتهم لدى شعوبهم لهو امتهان لكرامة الأوطان, واحتقار للشعوب, وقبول للهيمنة الخارجية, وتدخل في شؤون البلاد الداخلية. وفي هذه الحالة ليس أمام الشعوب إلا الالتفاف حول الرؤساء دفاعاً عنهم ضد العدوان الخارجي في صوره وأشكاله كافة. فقد أصبحوا رموزاً لها وعناوين لاستقلالها. وطبقاً للمثل الشعبي "أنا وخويا على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب". وفي مقابل ذلك، يعود الرؤساء إلى شعوبهم، وتقصر قاماتهم أمامها حتى لا تقطع الرؤوس من الخارج. وتغرز الأقدام في الداخل. ويرقص الرؤساء مع شعوبهم رقصهم الوطني, ويلبسون لباسهم الوطني.