انقلاب
ظن العالم أن حكاية "البيان رقم واحد" قد اختفت إلى الأبد من عالم السياسة، إلا أن هذا العالم لم يعرف أن هناك منطقة في الكوكب الأرضي لا تزال حبيسة الأفكار التي سيطرت على عقود الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي. طبعاً تخلصت أوروبا من هذه التصرفات منذ أزمنة بعيدة، ولحقتها آسيا وأميركا الجنوبية، ولم يبق إلا عالمنا العربي وحيز صغير من أفريقيا.
كل شيء انقلب رأساً على عقب، إلا في إقليمنا فلم يتزحزح صغير ولا كبير، حتى وإن تغيرت الأسماء وأشكال الممارسات السياسية التي يقال عنها تهريجاً في عالمنا إنها "ديمقراطية".
وقبل سنتين تقريباً أقسم العسكريون في البلد العربي صاحب آخر بيان تحت مسمى بيان "رقم واحد" على أن انقلاباتهم انتهت، وأن العملية الديمقراطية ومؤسساتها لها الفصل في أي خلاف أو تباين آراء، وهكذا صدَّق الناس والمتابعون تلك الوعود تحت عملية التسليم والاستلام بين العسكريين والمدنيين بعد انتخابات نزيهة.. ومضت الشهور وحدث تناقض اقتصادي وسياسي بين الفئات المشكلة للمشهد العام في هذا البلد العربي، وكان يمكن الرجوع إلى الدستور ومواده، أو إلى محكمة لها قوانينها التي يحتكم المختلفون إليها ويخضعون لسلطانها، وبدلاً من هذا وذاك تم الذهاب إلى أقصر الطرق.. البيان رقم واحد!
هذا الطريق المنتهي سهلٌ في البداية، لكن الاستمرار فيه غاية في الصعوبة، وسيصطدم في النهاية برغبات جمهور القرن الحادي والعشرين والحقائق على الأرض السياسية وانفتاح الناس على الإعلام ومضامينه، وأخيراً على ما تراه القوى الدولية محققاً لمصالحها، ومصالحها في هذه الأيام- بغض النظر عن المعيار الأخلاقي- هي إبعاد العسكريين عن الحكم.. أو على الأقل من الواجهة السياسية، ولن ندخل هنا في سؤال كمثل: لماذا هذه الرغبة الدولية في هذه الأزمنة؟ لأن الإجابة طويلة ومعقدة، وبدلاً من ذلك لماذا لا نطرح سؤالاً يقول: لماذا نستمر في عالمنا العربي كحقل تجارب في شؤون إدارة الدول وتسيير مناحيها المختلفة؟
البعض سيقول إن ذلك يعود إلى الجينات السياسية عند العرب ومن خالطهم، فهم- حسب هذا الاعتقاد- ينزعون إلى التسلط، ولا يقمعهم إلا قوة قاهرة وسلطان جبروتي.. وقد عبر عن ذلك العلامة ابن خلدون في مقدمته العظيمة.
وآخرون قالوا إن أوروبا والعالم المتقدم عموماً وصل إلى عالم السلام الداخلي بعد مخاض يشابه أجواء بيانات الإذاعات والتليفزيون التي تبدأ بالرقم واحد ولا تنتهي! ويضيف هؤلاء أن الأقوام السعداء في ممارستهم للشأن السياسي غرق آباؤهم وأجدادهم في الدم والسيئات بما لا يقارن بما يفعله بنو جلدتنا بأنفسهم وببلادهم، وأن هذا كله ضريبة لليوم الذي لا نرى فيه (كابات) تقرر عبر البيانات مصير الأمم المغلوبة على أمرها.
الأكيد في هذه المعمعة أن أصحاب الانقلابات سيختارون موعداً لإجراء انتخابات جديدة وبرلمان مُغاير، لكن الأهم من هذا كله هو ما بعد هذه الوعود، فلا شيء يؤكد أن البيان رقم واحد لن يعود ويُسمع ويُقرأ وتُشاهد تبعاته من جديد، والأغرب من كل هذا أننا سمعنا وتقريباً بعد الانقلاب العربي الأخير، أن بعض أحزاب تلك الدولة تبارك الانقلاب على ما كانت تطالب به قبل ثلاث سنوات! وهي تؤكد في نفس الوقت على أحقيتها في معرفة موعد الانتخابات الجديدة، وحصتها في تسيير شؤون البلاد حتى ذلك الموعد!
إنها غرائب لا تجدها إلا في عالمنا العربي والإسلامي، لكن الأكيد هو أن العصر ومفرداته وضروريات التعامل مع عالم يكاد يُجمع بحسن نية، أو بعدمها، ألا عودة لأزمنة الانقلابات، كل ذلك يجعلني شخصياً أتوقع عودة العقل لهذا البلد العربي مرة أخرى، وسماع ومشاهدة المذيع ذي الصوت الأجش وهو يُعلن للملأ تغلب الحكمة على العواطف والميول لحكم العسكر، رغم أنني أنصت لمن يقول بجانبي وأنا أكتب هذا المقال: انتظر البيان رقم واحد في أي مكان من إقليم -اللامعقول- قريباً!