التعليم العام و البيروقراطية
التعليم الحكومي في دولة الإمارات لا يزال يُدار من قبل بيروقراطية ضاربة الجذور، شكّلت على مر العقود الزمنية منذ إنشاء الدولة الاتحادية مراكز قوى يصعب النفاذ مما ترتئيه. وأصبحت بيروقراطية وزارة التربية والتعليم في الدولة كبيرة الحجم وواسعة النفوذ. والسائد في أوساط هذه البيروقراطية هو أن العملية التعليمية عبارة عن تنظيم بسيط يتم من خلاله تجميع الطلبة والمعلمين والمدخلات التعليمية الأخرى وتحويلها إلى فصل دراسي أو مدرسة تعمل بكفاءة، وأن هذه ممارسة تقنية ويمكن إجراءها بسهولة لكي يوجد في الدولة نظام تعليمي فعّال. ولكن الأمر ليس كذلك على إطلاقه، بل هي مشكلة معقدة من التنفيذ والسيطرة.
"الخبراء" الأجانب الذين تجلبهم الوزارة دون انقطاع يقولون إن التعليم يمكن أن يُدار بشكل أفضل، لو توافر له معلمون مؤهلون يمكنهم المساهمة في تصميم المنهج الدراسي، واختيرت له أفضل الأدوات التعليمية والإداريين الأكفاء، وتم تجنيب المدارس بشكل عام مطالب بعض أولياء الأمور غير المستنيرة وأحياناً الشخصية الضيقة وتدخلاتهم في شؤون المدارس، وتم القضاء على نفوذ البيروقراطية المهيمنة على السياسات التعليمية، وهذا يعني أن تفاعل السياسات التعليمية يميل مع التراتبيات الإدارية التي تسيطر على التعليم، ويؤدي إلى خلق إعاقات جدية أمام التعليم الفعال، وبشكل خاص يتم التقليل من شأن خصائص المدارس الكفؤة.
هذه المشكلة خطيرة بشكل خاص في دولة الإمارات؛ لأنه توجد دوائر سياسية مختلفة لها دور في وضع السياسات التعليمية، فعندما تضاف التنظيمات الاتحادية إلى الرغبات المحلية يحدث الالتباس وتبرز المعوقات التي تواجهها المدارس، مما يؤدي إلى إحباط جميع محاولات الإصلاح الحقيقية. لقد تزايدت مشكلة بيروقراطية التعليم عندما انتقلت مسؤولية التعليم إلى الحكومة الاتحادية للدولة الوليدة عام 1971، وتزايدت نتيجة لذلك التنظيمات والقوانين والأوامر الإدارية الاتحادية التي اعتُقد أنها تنظم عملية التعليم. معظم الزيادة في التنظيمات الاتحادية تنبعث من تزايد ميزانية التعليم ومجانية التعليم العام كوسائل للسياسة الوطنية، والقرارات التي تصدرها الحكومة الاتحادية حول القضايا الخاصة بتمويلات الميزانية وكيفية إنفاقها ساهمت في نمو النمط البيروقراطي التعليمي الموجود حالياً.
لقد أدت التنظيمات المتزايدة والقرارات غير المرتبطة بها مباشرة بالعملية التعليمية إلى تراجع حصة التعليم في ميزانيات وزارة التربية والتعليم المتعاقبة، بمعنى أن أجزاء كبيرة منها تذهب إلى الصرف على عمليات لا تمس التعليم مباشرة. وأثرت البيروقراطية أيضاً على عدد المدرسين المواطنين الذكور العاملين مباشرة في الميدان التعليمي، حيث تناقصت أعدادهم بشكل ملحوظ، ومن تبقى منهم زادت معاناته واحتياجاته المعيشية بسبب تدني الأجور.
وباجتماع مطالب المعلمين مع قرارات الوزارة المتزايدة زادت العراقيل واستقوت المعوقات البيروقراطية أمام العملية التعليمية، ورغم أن المعلمين يريدون ويحتاجون إلى مزيد من الحرية بعيداً عن إجراءات البيروقراطية، بمعنى مزيد من الفرص للعمل كأصحاب مهنة يحبون مهنتهم، إلا أن تجربة ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته تمنع ذلك. فخلال الفترة ابتداء من 1978، تمت أدلجة التعليم العام في الإمارات بشكل مكثف من قبل أصحاب الفكر الديني المتزمت، الأمر الذي حدا بالدولة إلى كسر تلك الدائرة حفاظاً على ناشئتها من عمليات غسيل الأدمغة التي تمت ممارستها عليهم.
ولكي يتم تحسين الأداء في المستقبل المنظور، يتوجب على نظام الإمارات التعليمي أن يركز أولاً على نزع صاعق الأيديولوجيا الدينية التي استشرت فترة ولا تزال فلولها توجد في أنحاء متفرقة من مدارس الدولة، وإنْ كان ذلك بشكل غير مكشوف تماماً في هذه المرحلة، ثم بعد ذلك عليه التركيز على المخرجات التعليمية. وهنا يستطيع المسؤولون عن التعليم في الدولة الكف عن إجبار الميدان التعليمي، وبالتحديد المدارس، على استخدام أي من المدخلات وكيفية استخدامها، وأن يتركوا ذلك لأهل المهنة بعد أن يقوموا بإصلاح المدارس من حيث نوعية النُظّار والوكلاء والمدرسين العاملين فيها واستبدال العديد منهم بعقليات أكثر تفتحاً وإدراكاً لطبيعة العصر الذي نعيش فيه. وعوضاً عن التدخل في تفاصيل شؤون المدارس التعليمية مباشرة، على المسؤولين الكبار في الوزارة توفير الموارد اللازمة كافة وتقديمها للمدارس أو حجبها عنها وفقاً لأداء كل مدرسة على حدة، الأمر الذي سنترك الحديث عنه لمقام آخر.