استغربتُ المقالة التي نشرها صديقي الباحث الاستراتيجي الألماني "فولكر بيرتس" بصحيفة "نيويورك تايمز" يومَ الثلاثاء الماضي. فقد ذهب فيها إلى أنّ المفاوضات في منطقة الشرق الأوسط ومن حولها جاريةٌ على كلّ صعيد. ورغم أنّ الآمال بالوصول إلى نهاياتٍ إيجابيةٍ في أيٍّ منها غير متوافرة، فإنّ تقدماً حصل في كل المسارات، والمشكلة الآن في عجز الإدارة الأميركية الحالية عن التقدم في رعاية أيٍ من الملفّات، والحاجة إلى الأوروبيين لملء الوقت الضائع لحين حضور الإدارة الأميركية المقبلة، واستتباب الأمر لها على مشارف الربيع القادم عام 2009! وهناك أمران آخران إضافيان في تقويم "بيرتس": المبادرات السورية الإيجابية التي لولاها لما حصل التقدم(!)، والمبادرات الفرنسية" الشجاعة" التي لولاها لما كان التفاوُضُ ذاتُه! وأَسَفُ بيرتس الأخير أنّ الفرنسيين يغادرون رئاسة الاتحاد الأوروبي آخِر هذا العام، لذلك يرى أن يُعهد لسولانا، المجرَّب والذكي، القيام بالمهمات لحين عودة الأميركيين كما سبق القول! إنّ المسألة هنا ليست مسألة وعيٍ ورغبات؛ بل هي مسألةُ فعلٍ ووقائع. والوقائع تقول الآن إنّ المفاوضات انقطعت على كل المسارات، وقبل أحداث جورجيا، ثم جاءت تلك الأحداث فحوَّلت الانقطاع إلى قطيعة، بحيث ازدادت احتمالات الانفجار، والمسألةُ الآن: أين ومتى يحدُثُ ذلك؟! على المسار التفاوضي الإيراني (اللجنة السُداسية)، كان الأوروبيون قد قدّموا رُزمة حوافز لإيران قبل عدة أشهُر، وما أجابت إيران عليها حتى اليوم، وبدا أنها ترفُضُها من منطلقين: عدم القبول بإيقاف التخصيب لأي سببٍ كان، ورفض التعامُل معها من خلال مجلس الأمن وضرورة العودة للوكالة الدولية للطاقة. وقد انصرفت إيران منذ أكثر من شهر لاستعراض قوتها وقدرتها وهَول ما سوف يحصُلُ لأميركا وإسرائيل إنْ هاجمتاها، وما تستطيعُ هي فعله لثلاث جهات: بنشر الاضطراب في العالم العربي، وبإقفال مضيق هُرمُز، وبالقوة الصاروخية المتطورة التي تملكُها والتي تتزايدُ كلَّ يوم. وكان الأميركيون قد صمتوا صمتاً مطْبقاً بعد الرفض الإيراني، أمّا الأوروبيون فقد قالوا إنهم سائرون حتماً في أواسط سبتمبر القادم باتجاه قرارٍ جديدٍ بالعقوبات أو بزيادتها وهو الثالثُ إنْ حصل ذلك. وتبع ذلك ذهابُ الرئيس بشّار الأسد إلى طهران وتركيا، وذهاب الرئيس نجاد إلى تركيا ودمشق، وزيادة الوجود الإيراني في جزيرة "أبو موسى" الإماراتية المحتلة. وعلى المسار التفاوضي الإسرائيلي- الفلسطيني، بادر الإسرائيليون، وقبل واقعة جورجيا أيضاً، إلى اشتراط ثلاثة أمور كلّها خارجة عن سياق التفاوض على مسائل الحلّ النهائي: رفض عودة اللاجئين، رفض تقسيم القدس، رفض التفاوُض على المستوطنات. وردّ الفلسطينيون على ذلك بعنف، فتضاءلت الاتصالات على مستوى عالٍ. ثم جاءت رايس للمنطقة، واستنكرت زيادة الاستيطان، وعندما تحادث عباس مع أولمرت قيل إنّ ذلك من أجل الأسرى الذين بدأ الإسرائيليون بإطْلاق سراح بعضهم. وما انقطعت الاتصالاتُ نهائياً، لكنْ ما عاد هناك حديثٌ عن حلٍ ودولةٍ قبل نهاية هذا العام كما وعد الرئيس بوش دائماً. وهناك حديثٌ آخَرُ بين إسرائيل و"حماس" من أجل "شاليط" والأسرى من خلال مصر. فالوضْع تجمَّد بفلسطين ولم يتوتَّر، ويرجع ذلك لا إلى التقدم السابق الذي تحقق في مفاوضات الحلّ النهائي، بل إلى التهدئة التي حصلتْ بين إسرائيل و"حماس"، ومسارعة الأخيرة إلى قمع المخالفات لقرار وقف إطلاق النار من جانب الفصائل الفلسطينية الأُخرى وعلى رأسها "فتح"! وعلى المسار التفاوضي السوري -الإسرائيلي، توقفت المحادثات غير المباشرة بعد الجولة الرابعة. وما قال أحدٌ عَلَناً بانقطاع المفاوضات. ثم ذهب الرئيس الأسد إلى طهران وتركيا. ومن طهران تسربتْ أخبارٌ عن انزعاج الإيرانيين من التفاوض مع إسرائيل في هذا الظرف بالذات. ويقال إنّ الأسد ردَّ بأنّ المفاوضات لا تتقدم، وإسرائيل لا تريد السلام. وهو ما أزعج إيران ولا "حزب الله" في شيء، وإنما أراد الخروج من العزلة التي يريد الأميركيون ويريد السعوديون والمصريون فرضَها عليه، عن طريق علاقاتٍ مع تركيا ومع فرنسا. أمّا في تركيا فيقالُ إنّ الأسد شكا من التردد الإسرائيلي، ومن الرفض الأميركي، وما رأى مصلحةً في استمرار التفاوض مع إسرائيل الآن في الوقت الذي يترك أولمرت رئاسة الحكومة، ويزداد الوضع السياسي في إسرائيل اضطراباً. وفي الوضع الداخلي اللبناني، وهو شديد الارتباط بما يحدث في المنطقة، ورغم تشكُّل حكومة الوحدة الوطنية، ما تزال الملفاتُ كلُّها عالقة، ويشبِّهُ المراقبون المسار الحكومي والنيابي بأنه مثل عمليات خَلْع الأضراس، لشدة أَلَمها، وضآلة نتائجها. ورغم أنه يبدو أنْ لا تنسيقَ بين سوريا و"حزب الله" في الملفات اللبنانية الداخلية، فإنّ الحزب لا يبدو راضياً عن المسارات الداخلية رغم مشاركته في الحكومة، وكذلك سوريا. والوضع في مدينة طرابلس ما يزال متوتراً ومضطرباً. ويعتقد السوريون المنزعجون من القطيعة السعودية أنهم يستطيعون التعبير عن انزعاجهم من خلال تفجير الوضع هناك. وتتوالى العمليات الغامضة وغير الغامضة ضد الجيش اللبناني، مثل تفجير طرابلس الذي ذهب ضحيته زُهاء الخمسة عشر عسكرياً، ومثل حادث إقليم التفاح الذي أُسقطت فيه طائرة هليكوبتر وقُتل قائدُها النقيب "سامر حنا". حدثت كلُّ هذه الأُمور وتحدُثُ قبل الهجوم الروسي على جورجيا وبعده. وكانت للهجوم تداعياتٌ دوليةٌ وتداعياتٌ في منطقة الشرق الأوسط. في المجال الأوَّل بدا أنّ كلَّ التفاهُمات بين الغرب وروسيا انتهت أو جُمدتْ على الأقلّ، وقد يكون من ضمن ذلك الاتفاق على المسار السُداسي تجاه إيران. ومن الإشارات إلى ذلك إقدام الاتحاد الأوروبي منفرداً على زيادة العقوبات ضد إيران. أمّا في المنطقة فبرزت في ضوءٍ فاقعٍ المساعدات العسكرية والاستخبارية الإسرائيلية لجورجيا في مواجهة موسكو. ومن جهةٍ أُخرى مسارعة الرئيس الأسد إلى موسكو لطلب سلاحٍ وصواريخ، تارةً لأسباب دفاعية، وطوراً لخدمة روسيا في مواجهة إسرائيل وأميركا! ما دلالات توقف المفاوضات في كل مكان، والجمود هنا، والتوتر هناك؟ وما تأثيرات اصطدام روسيا بالغرب على الصراع الغربي مع إيران بشأن النووي، وبشأن تدخلاتها في المنطقة؟ وماذا يفعل الإسرائيليون في ظلّ انهيار حكومتهم، والجمود أو التوتر على حدودهم؟ يقول المراقبون إنّ السلوك المتوتُّر لهذا الطرف أو ذاك، لا يفسّرهُ الحَدَثُ الجورجي وتداعياته وحسْب؛ بل يفسِّرُهُ أيضاً التزحْزُح وإعادة التموضُع والتحرك العشوائي أحياناً، كلُّ ذلك انتظاراً للإدارة الأميركية القادمة ورؤاها الجديدة أو المُراجِعة للمنطقة. وفي حين يعملُ الإسرائيليون في العادة بالداخل الأميركي بشكلٍ هجومي على سائر الجبهات أثناء الانتخابات الرئاسية، يعملون بشكلٍ وقائيٍ في النطاق الإقليمي. أما الجهاتُ الأُخرى فلا تعملُ كثيراً بالداخل الأميركي أو لا تستطيع، بينما تحاولُ أن تضع نفسَها في موضع العنصر الضروري لكل إدارة مُقْبلة. وانطلاقاً من تشخيص الوضع الحالي بالمنطقة، وتصرفات الأطراف، يمكن القول إنه بالنظر للصراع الروسي- الغربي، فقد لا يكونُ ممكناً أن تتقدم قصةُ العقوبات على إيران في مجلس الأمن. والأمر نفسُه بالنسبة لإمكانيات الهجوم الأميركي على إيران في الشهور الأخيرة من عهد بوش. لكنْ من جهةٍ ثانية، لا يبدو أنّ الإسرائيليين أو الإيرانيين سينتظرون بدون فعل شيء ستة أشهُرٍ أو أكثر. صحيح أنّ الإيرانيين يكسبون وقتاً من وراء الخلاف الروسي -الغربي، لكنهم لا يربحون بالعراق ولا بغزّة، كما أنّ "حزبَ الله" لا يستطيع البقاء على وضعه المكشوف إلى ما لا نهاية. ولدى الإسرائيليين دوافع للحركة. فهم يرون أنّ "حزب الله" يكوّم قدراتٍ صاروخية جديدة أمام أعيُنهم وسيستخدمها عاجلاً أم آجلاً. كما أنهم يرون أنّ النظام السوريّ سياسته ذات وجهين، ولا بد من تأديبه دون إسقاطه. والعسكريون يعتقدون أنَّ وضعهم لن يستقيم حتى في التفاوُض ما لم يثْأروا من الحزب ويستعيدوا الهيبة المطلوبة. وليس من المنتظر أن يتجرؤوا بمفردهم على مهاجمة إيران، لكنّ عمليةً عسكريةً خاطفةً لتقليم أظافرها غرب الفُرات، قد تكون منافعُها أكبر من مضارّها مهما كانت ردات الفعل. والأمر في كل الأحوال لا يتجاوز شهراً أو شهرين. وعلى مشارف رمضان، عش رجباً ترَ عجباً!