كما لم أغادر مدينة من قبل، أغادر هذه المدينة. مجللاً بالخيبة. غارقاً في وحل الاكتشاف المذهل: أنا رجل بلا مدينة. سنوات تقصف الأعمار، من مدينة لأخرى، من شارع لآخر، من هزيمة صغيرة لأخرى. ولحظة نعود لا نعرف إلا أن نعود إلى حيث غادرنا... حيث لا مدينة ولا عشاق نحسدهم. هنا الحدود كانت. هنا الحائط كان يلتفُّ حول تلك البنايات كأفعى يفوح من جلدها الموت. أنظرُ إلى آثاره الحجرية الممتدة على الشارع الإسفلتي الذي نقطعه الآن، يدور بنا نصف دورة. عن قصد تركوا حجارة أساسه على نفس مستوى الإسفلت الجديد، كي تظل مرئية وشاهدة على تاريخ ربض على قلب المدينة لنصف قرن. يده لا تكف عن الإشارة خارج نافذة السيارة وهو يشرح لي عن البيوت والكنائس والمقاهي التي كانت مجاورة للسور، أو قريبة منه. فيها كان يتجمع الناس الذين ينظرون بنقمة إلى الحائط وينتظرون اليوم الذي يدكونه فيه ويجعلونه دماراً. أنا فقدت الاتجاهات، إذ يتداخل شرق المدينة وغربها بحاضرها وماضيها. تدخل السيارة في شارع وتترك آخر، يقول: الآن تركنا شرق المدينة ودخلنا غربها. تتعرج إلى اليمين أكثر فيقول: عدنا إلى شرق المدينة، محلات الملابس الأنيقة هذه كلها جديدة، لم يكن هنا شيء براق، كل شيء كان وما زال في الغرب. أتلفَّت، أسرح في أشياء كثيرة، تدلف السيارة شارعاً آخر، تغيب المحلات البراقة. هذه الكنيسة كانت المكان الذي تجمع فيه الناس الغاضبون قبل الهبَّة الأخيرة على السور والحواجز الأمنية فيه. أتلفت ثانية، أتأمل، تمشي السيارة، عدنا الآن إلى غرب المدينة. أترى ذلك التمثال الكبير، وكيف يصوب وجهه نحو شرق المدينة ويضع يديه حول صدغيه على هيئة من ينادي بمنتهى صوته؟ نعم أراه. إنه يصيح صيحة الحرية نحو الشرق! أترى تلك الجدارية الضخمة على اليمين وتماثيل الجنود المحيطة بها؟ نعم أراها. إنها نصب تمجيد الجيش الروسي الذي حرر المدينة في الحرب العالمية، ثم شطرها إلى قسمين. بعد نصف قرن كان الإبقاء على ذلك النصب واحداً من شروط مصادقة الروس على توحيد المدينة. كان يشرح وكنت أصغي. كم قرأت عن كل ما شرحه لي، وكم بدا كل ما قرأته لا معنى له. ليس هذا هو المهم، المهم أنني يوم كنت أقرأ عن المدينة كنت أشعر بأنني أقرأ من موقع المطل على التاريخ. المشاهد لحلقات تتتابع بالسرعة والبطء الذي أريده أنا: أسرعُ في القراءة، فيسرعُ التاريخ، أتباطأ فيتباطأُ التاريخ. أغلق الكتاب فيتوقف التاريخ. نشوةٌ سرية أملكها، أتفاخر: أنا قارئ كتب التاريخ أتحكم فيه، في سرعة الإيقاع وفي الإيقاف، ثم في السماح له بالاستئناف! الآن فقدت كل تلك القدرة ونشوتها. انهارت سيطرتي المزيفة على... التاريخ! أنا أتحرك في قلب المدينة، أنا المتحرك وهي الساكنة تحركني، وتهزمني لحظة بلحظة. تهزمني بالنقاط، وكنت أظنني هازم المدن بالضربات القاضية. هذه... هزمتني من حيث لم أتحوط. بعد أول مطارحة مع هذه المدينة خرجت بالخيبة! فجأة عرتني. تاريخها الحار، المتلاحق، اللاهث، وحاضرها المنتشي، المغرور، الواثق صفعني في وجهي على غير توقع. كان يشرح لي عن الملك الذي شيد قلعة لامرأة قبل ثلاثمائة سنة على طرف المدينة، يشير لي نحو المقاهي التي تنام، يسرد تواريخ الجاليات التي جاءت تبحث عن عسل أو كرامة. قهرتني هذه المدينة الغنية وتاريخها، بدوت فقيراً معدماً أمامها. لأول مرة بعد غزواتي المديدة مع مدن عديدة أشعر بأنني رجل بلا مدينة. كشفتني على حقيقتي المزيفة... تاجر كلام يتشاطر في شوارع المدن التي يزورها، ثم يعود إلى... إلى حيث لا مدينة. لأول مرة أشعر بأنه من زمن طويل ما عاد لي عنوان، وما عادت لي مدينة أتغزل بها، وألقي برأسي على صدرها وأبوح لها بمغامراتي مع المدن الأخرى. ترجلنا من السيارة، دلفنا ممراً يفصل ويربط بنايات، ويعلوه قوس شبه قديم. دائرة واسعة تتوسط البنايات الحجرية الشاهقة. في الجانب الأيسر ينتصب جدار زجاجي هائل يضم وراءه مطعماً. في وسط الدائرة سيارة صغيرة مخلوع صندوقها الخلفي ومغروس فيه ذنب طائرة هليكوبتر مصنوع من الصفيح. من سقفها تعلو قصبة فوقها مروحة بدائية لطائرة لم تكتمل. يبدو الشكل غريباً وطريفاً. أسأل بعيوني: ما هذا؟ يجيب: عمل فني يؤرخ لمحاولة فاشلة لمنظمة "بادر ماينهوف" بناء طائرة هليكوبتر لاستخدامها في تحرير سجناء في السبعينيات الماضية. أتعجب مبتسماً. أتذكر مشروع طائرة شراعية (يدوية) كان مخططاً لها في الثمانينيات أن تحرر (أيضاً) الجليل من جنوب لبنان! نتوقف عند مقهى على رصيف يطل على جسر يعبر نهر المدينة. كم من قوارب وقراصنة مروا فوقك أيها الماء الرائق المخادع. وكم من فم وأنف أغرقتَ وخنقت؟ شعرت بلؤم المدينة حينها متوارياً خلف مائها الهادئ. رفعت رأسي، رأيت نصباً آخر. قلت له إنه يشبه النصب الكبير الذي يحاذي الحد الشرقي. قال إنه يؤرخ لانتصارهم على الفرنسيين قبل قرنين من الزمان. ضحك وأضاف: لا شيء يشبه ذلك النصب، أحبه لأني أغيظ به أصدقائي الفرنسيين. عندما يزورونني في مدينتي أصطحبهم لرؤيته وأبتسم أمامهم. الحرب صارت ابتسامة ساخرة. فوق أعلى النصب مجموعة مدافع متوجهة نحو باريس! أدير رأسي نحو اليمين: مقعد قريب من ضفة النهر يجلس عليه عاشقان يذوبان فوق غيمة. أتابعهما بشغف، حسدت العاشق طبعاً! فكرت: ليس لي مدينة أصلاً. حزنت. تمنيت لو كانت لي مدينة أكتب فيها شعراً، وأتمنى لعشاقها المزيد من القبل، وأحسد الذكور والإناث منهم. *** لا أدري إلى أيِّ صنف أدبي ينتمي ما سيلي... كل الذي أدريه أنها رشحت في أمكنة وأزمنة متباعدة غير قاصدة اللقاء معاً في كتاب... ... وكل الذي أدريه أيضاً أنها إهداء متأخر إلى صديقي الذي تسلل ذات ليل بعيد إلى جنوب لبنان ولم أره منذ ست وعشرين سنة: إلى أحمد أبو سلعوم... ومريمه "حصان البحر الذي لا يعيش إلا في قلب العاصفة" *** نص من كتاب للمؤلف بعنوان "وشم المدن: شظايا رجل بلا مدينة" يصدر قريبا.