أصدر عدد من العلماء والمثقفين الشيعة العرب مؤخراً بياناً مهماً بثته وكالة الأنباء الفرنسية من المنامة، طالبوا فيه بمراجعة لثمانية عشر بنداً من بنود الاعتقادات والممارسات الشيعية السائدة، من أجل تسهيل تطبيع وضع الشيعة داخل الفضاء الإسلامي الواسع بأغلبيته السُنية. وتشمل هذه البنود مسائل متنوعة، من أهمها نظام المرجعية والتقليد والخمس المعطى لرجال الدين، ونظرية ولاية الفقيه، وسب بعض الصحابة، وخصوصاً الخلفاء الراشدين الثلاثة الأوائل وممارسات التعذيب الجسدي في عاشوراء .كما طالب الموقعون على العريضة بتوطيد ولاء الشيعة العرب لبلدانهم وبناء مرجعيات علمية ودينية خاصة بهم. ومن الجلي أن السياق الذي صدرت فيه الرسالة ليس غريباً عن الجدل الواسع الذي خلفته تصريحات الشيخ يوسف القرضاوي المناهضة لـ"التمدد الشيعي" في العالم السُني، الذي اعتبره نتيجة مخطط محكم لإضعاف السُنة ونشر المذهب الشيعي بالإغراء والدس. ودون الخوض في الجدل الذي خلفته تصريحات القرضاوي، نكتفي بالملاحظة أنها عكست بالفعل توتراً طائفياً قائماً، نلمسه في دوائر عديدة، من بينها الدائرة السياسية (الصراع السُني- الشيعي في العراق، وبصفة أقل حدة في لبنان)، ومنها الدائرة الدينية الخالصة (عودة النقاشات العقدية المذهبية القديمة)... وبالعودة إلى رسالة العلماء والمثقفين الشيعة، نلاحظ أنها تعرضت لمختلف أوجه المسائل الخلافية بين الطائفتين، ووجهت النظر إلى أسباب وخلفيات التوتر القائم راهناً. ويمكن أن نجمل هذه المسائل الخلافية الصدامية في قضايا ثلاث رئيسية: تتعلق أولاها بموضوعات سياسية تاريخية تعود لتركة الفتنة الكبرى، وتتعلق ثانيتها بمسائل عقدية وفقهية قديمة موروثة من السجل التراثي الوسيط، وتتعلق ثالثتها بمسائل فكرية وأيديولوجية راهنة. أما الموضوعات الأولى التي لا ينبني عليها موقف عملي مباشر اليوم، وإنْ كانت شديدة الحساسية، فتتعلق بموقف الشيعة من خلافة الأئمة الثلاثة الذين سبقوا الإمام علي كرم الله وجهه، ثم من الفتنة التي نشبت داخل الأمة في عهد الخليفة الراشد الرابع، سواء تعلق الأمر بمعركة الجمل أو الحرب الطويلة مع معاوية بن أبي سفيان. ووجه الخلاف الأعمق هو قول الشيعة بالوصية والعصمة، الذي ينجر عنه رفض تولية الخلفاء الثلاثة الذين يعتبرهم السُنة أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما أن المذهب الذي درج عليه أهل السُنة، هو السكوت عن ما شجر بين الصحابة، ولو أقروا بصواب موقف الإمام علي وبحقه في الخلافة بعد عثمان بن عفان. وعلى الرغم من الجانب العقدي في المسألة لدى الشيعة (مذهب الوصية في مقابل مبدأ البيعة والاختيار لدى السُنة)، إلا أن الموضوع يجب أن لا يكون مصدر توتر وصدام، باعتباره يتعلق بمرحلة تاريخية انقضت، ولم يعد لها تأثير عيني في واقع الأمة اليوم. ولذا فإن استمرار بعض الكتابات الشيعية في سب الخلفاء الراشدين أو بعض الصحابة الذين لم يقفوا في صف الإمام علي يشكل استفزازاً لا طائل منه للوعي السُني القائم على مرجعية توقير الصحابة، وتجنب الخوض في خلافاتهم. ومع أن العديد من علماء وساسة الشيعة دعا إلى التخلي عن نهج قذف الصحابة وسبهم (من بينهم الإمام الخميني قائد الثورة الإيرانية وآية الله السيستاني المرجع العراقي الكبير)، إلا أن بعض غلاة الشيعة لا يزال يسلك هذا الخط، ويرى فيه جزءاً من ثوابت التشيع. أما الموضوعات العقدية -الفقهية، فتنحصر في محورين كبيرين: محور عقدي كلامي يكمن في اعتماد الشيعة في مجملهم لآراء ومذاهب المعتزلة في النظرة للألوهية والطبيعة وخلق القرآن والتحسين العقلي، في مقابل انبناء العقيدة السُنية في مجملها على المذهب الأشعري الذي أرسى قطيعة كبرى مع الاعتزال. محور فقهي يتمثل في اختلاف المدونتين الأصوليتين السُنية والشيعية في الأسس البنيوية: ففي الوقت الذي يتأسس المنهج الأصولي السُني على الأصل النصي (الكتاب المرجع والسنة الشارحة) والقياس والإجماع، يوسع الشيعة منطوق النص ليشمل أقوال الأئمة التي لها نفس حجية الحديث النبوي ويرفضون القياس، ويشرطون حجية الإجماع باستناده لقول الإمام المعصوم. تنضاف إلى هذا البعد الأصولي اختلافات جزئية في المسائل الفقهية، اشتهر من بينها نكاح المتعة الذي يرفضه السُنة. وليس في رأينا ما يستوجب أن يكون هذا الموضوع الكلامي - الفقهي مصدراً للصدام والتوتر اليوم. ولنذكر هنا أن الاعتزال نشأ في الوسط السُني، وكان مذهب جل الأحناف، قبل أن يتبناه الشيعة في مرحلة متأخرة،كما أن القول بالإجماع والقياس ليس مصدر اتفاق بين أهل السُنة . ولقد انتهى علماء الطائفتين إلى التقارب في المنحى الفقهي من خلال العمل بالأداتين الرئيسيتين في المنهج الفقهي وهما: تأويل النص المرجع ومراعاة السياق والمصلحة، وإن اختلفوا لفظياً في وصف وتسمية أدوات التأويل واستثمار الأحكام الشرعية. والمشكل الوحيد المطروح هنا هو الاستمرار في نقل أدبيات الحِجاج والجدل التي تعكس مناخ الصراع الطائفي في العصور الوسيطة، من قبيل التكفير والتفسيق المتبادلين، مع العلم أن هذه البيئة الصدامية شملت حتى أتباع المذاهب السُنية والشيعية في ما بينها. أما المسائل الراهنة، فهي الأكثر تعقيداً وحساسية، ويمكن أن نجملها في أمرين رئيسيين: يتعلق أولهما بالنموذج الفكري- السياسي الشيعي المطروح حالياً للتصدير والاقتداء، ويتعلق ثانيهما بتداخل الأيديولوجي والاستراتيجي في الصدام الطائفي المشتعل في عدة جبهات بالمنطقة. ويتمحور النموذج في نظرية ولاية الفقيه كما بلورها الخميني (بعد أن كانت رأياً شاذاً ومتأخراً في التراث الإمامي) وجسدها في تجربة الجمهورية الإسلامية التي قامت عام 1979.صحيح أن هذا النموذج لم يكون له سوى تأثير محدود لدى التيارات الإسلامية السُنية، إلا أن حدث الثورة الإيرانية كان حاسماً في تشكل ظاهرة العنف الأصولي في البلدان السُنية الذي صدر في الغالب عن ميتولوجيا الثورة بصفتها قطيعة راديكالية ومشروعاً اجتماعياً انقلابياً عميقاً (بدل مثال الدعوة والإصلاح). كما أن الجمهورية الجديدة، التي قامت على أنقاض النظام الشاهنشاهي كرست في دستورها وهويتها السياسية البعد الطائفي، وحافظت على ثوابت السياسة القومية للدولة الفارسية بتوظيف المعطى الطائفي، خصوصاً بعد سقوط نظام صدام حسين وقيام حكومة طائفية في بغداد تحت الحراسة الأميركية. ومن هنا التأكيد على بند واحد من بنود المراجعة الشيعية، هو توطيد ولاء الشيعة العرب لبلدانهم وأوطانهم، مما يقتضي الاستناد لمرجعيات علمية ودينية محلية، وإدراك أن حق الخصوصية المذهبية لا يتناقض مع واجبات المواطنة.