إن زيارة المرء للعراق اليوم تعني أن يجري تذكيره وبقوة بما هو واضح جلي، وأعني أنه ما من حل عسكري للعنف الذي تغذيه الأسباب السياسية ويمارسه السكان المحليون ضد الأجانب· وإن ما يصح قوله في حالة الفرنسيين في الجزائر، والبريطانيين في شمال أيرلندا، والروس في الشيشان والإسرائيليين في الضفة الغربية- كل ذلك يصح قوله في حالة سلطة التحالف المؤقتة في العراق· ذلك أنه على رغم الاستعانة بمجهود عسكري هائل، فإن الوضع الأمني آخذ في التدهور، على الأقل في الوقت الراهن· وقد قيل لوفد -كنت أنا عضوة فيه- لدى زيارته لإحدى قواعد الإسناد الأميركية في الكويت الأسبوع الماضي، قيل له إن الكمائن التي تستهدف قوافل الإمدادات تزداد تواتراً وفاعلية · والإرهابيون الأجانب على ذمة مسؤولي سلطة التحالف المؤقتة، يمثلون مشكلة تتفاقم وتنتشر بسرعة · و الهم الأكبر ، في رأي قائد قوات التحالف الليفتنانت جنرال ريكاردو سانشيز ، يتمثل في التداخل بين الموالين للنظام السابق والأجانب، وهو التداخل الذي برز واضحاً في الأيام الثلاثين الماضية · وقد اعتبر قائد آخر أن ذلك يمثل التقاء و تجمع السنّة والإرهابيين ·
ويصر القادة العسكريون الأميركيون على أن الحل لا يأتي بنشر مزيد من القوات، وقد علّق أحدهم تعليقاً جافاً ساخراً قال فيه: المزيد من الأشخاص يعني المزيد من الأهداف · أما الاستثناء الوحيد فموجود على الحدود، حيث هناك حاجة إلى التوافق بين مزيد من البشر ومزيد من التكنولوجيا· أجل، إن حلول مشكلات الوضع الأمني المتردي في العراق إنما هي حلول سياسية، وإن المشكلة الأكثر إلحاحاً الآن هي التطرق إلى معالجة شعور العراقيين السنّة بأنهم لا مستقبل لهم· وكان قرار حل الجيش العراقي وإرسال أفراده إلى بيوتهم دون دفع رواتبهم، ثم تعزيز ذلك باتخاذ قرار بـ إزالة البعث إضافة إلى قرارات أخرى، جرى عن غير قصد إطلاق رسالة مفادها أن الولايات المتحدة تعتبر أن السّنة والبعثيين وأنصار صدّام شيء واحد· لكنهم ليسوا كذلك، ذلك أن غياب الحزب السياسي، وما يعتبره الكثيرون غياب الصوت في الحكومة الحالية، قد أدى إلى توليد شعور لدى السنّة بأنهم محرومون، ولذا ليس من قبيل المصادفة أن يندلع أشد العنف في المناطق السنّية· إن هذه مشكلة لا تحتمل الانتظار·
وعلى القدر ذاته من الأهمية، ينبغي إعادة النظر في قرار تجنب أي شكل من أشكال الحكومة المؤقتة أوالانتقالية، وفي المضي نحو الانتقال المباشر من السيادة الأميركية إلى دستور عراقي إلى انتخابات وطنية ثم إلى السيادة العراقية·
ذلك لأن هذه الخطة تفرض إيقاعاً غير واقعي على صياغة الدستور لمواجهة الضغوط في العراق، وكذلك في الأمم المتحدة وأميركا في مسعى إلى تسليم السيادة إلى العراقيين في أقرب وقت ممكن·
غير أن قيمة الدستور، في أية حال، لا تكمن في الوثيقة بل في عملية التوصل إلى اتفاق حول الخيارات السياسية الأساسية والتوازنات المقبولة، وهو أمر استغرق من الولايات المتحدة أكثر من سبع سنوات· وهناك مفهوم يفيد بأنه في بلد له ما للعراق من تاريخ وعوامل ديموغرافية وتجارب حديثة، من الممكن التوصل إلى هذه الاتفاقات بسرعة ، كما أصر مسؤول سلطة التحالف المؤقتة مراراً وتكراراً؛ غير انه مفهوم يثير الضحك، إذ من الممكن فرض الوثيقة على العراقيين بالقوة ودفعها في حلوقهم لكي تكون ملتزمة بالموعد النهائي الذي نحدده، (أي كما قال وزير الخارجية الأميركي كولن باول : أمامهم مهلة قدرها ستة أشهر )، غير أنها لن تكون سوى قطعة من الورق ليست لها أهمية كبيرة، وتنتشر فيها الألغام السياسية التي ستنفجر فور رحيلنا عن العراق، وربما تتحول إلى حرب أهلية·
لكن هناك خياراً بديلاً، ومن المستغرب أن الولايات المتحدة تقوم بتنفيذه بيد واحدة في حين أنها تستبعده بيدها الأخرى، ويعني ذلك تنصيب حكومة انتقالية، تتمتع بالسيادة الاسمية؛ ذلك أن العراق الآن مقسّم إلى ست مناطق تحت القيادة العسكرية، وتضم كل منطقة منها عدداً من المحافظات العراقية· وقد قام القادة العسكريون باختيار الزعماء المحليين في المحافظات وفقاً لحجم قواعدهم الدينية والإثنية· ومن الواضح أن هذه العملية ليست هي الديمقراطية، كما أن النتائج لم تلق ترحيباً متجانساً من مختلف الجهات، لكنها أقامت مجالس مؤلفة من العراقيين الذين يقومون بأدوار معينة ويتمتعون بالقدرة على فعل المزيد·
وعلى المستوى الوطني، حيث من غير الممكن أن تكون العملية جاهزة تماماً، سيكون الخيار أن يجري تبني قانون انتخابي صريح وواضح المعالم ثم إجراء الانتخابات بحسب مقتضياته لاختيار أعضاء جمعية تشريعية مؤقتة تتمتع بصلاحيات البقاء لبضع سنوات· وستقوم الجمعية باختيار وزارة مؤقتة وبصياغة الدستور· وسيكون هذا المسار، شأنه شأن كل ممارساتنا في العراق، محفوفاً بالمخاطر، غير أنه سيحمل فوائد كبيرة في الشرعية الشعبية والوقت المتاح الآن، كما سيوفر قاعدة طبيعية للتوصل إلى تسوية في الأمم المتحدة· وقد اعترف السفير بول بريمر في الأسبوع الماضي ب