يضيف الاهتمام العالمي الكبير بالانتخابات المحلية في العراق، رقماً جديداً إلى سجل الأرقام القياسية التي حققها سكان هذا البلد عبر التاريخ. ويسارع إلى الاستفادة من ذلك مؤيدو الاحتلال الذين يدّعون بأن الانتخابات برهان على رجاحة عقلهم. ويسجل هذا الادعاء على حساب العراق أرقاماً قياسية في العجز عن قراءة الثلاثة تريليونات دولار كلفة الحرب المستمرة، حسب تقدير عالم الاقتصاد جوزيف ستيغليتز الحائز على جائزة نوبل. ولا يتضمن الرقم خسارة العراقيين، حسب إحصاءات منظمات الأمم المتحدة، ملايين القتلى والجرحى والمقعدين والأرامل واليتامى والمهجرين واللاجئين. وعلى من يدخل في نقاش مع مؤيدي الاحتلال اختيار واحد من أمرين، كما في النكتة العراقية عن شخصين، سأل أحدهما الآخر "تشوف النملة هناك بأعلى الجبل"؟ فاستوضحه الآخر: "أيْ نملة، المفتوحة عيونها لو المغمضة"؟ لكن ما يستحق النقاش مسألة دور الطائفية في الانتخابات. ونقاش هذه المسألة محرج، لأن أغلب العراقيين يعتبرون البحث حول الطائفية أو مجرد الإشارة إليها طائفية. وعندما يتعلق الموضوع بالطائفية فإن العراقيين من جميع الأديان والمذاهب يلتزمون بمبدأ "التقية" الشيعي. وتعني "التقية" إبطان أو إخفاء حقيقة ما يفكر فيه المرء. وقد لا نجد غير ذلك تفسيراً لتقاعس الفكر السياسي العراقي عن بحث الطائفية، التي "تقف خلف كل مأساة" حسب تأكيد رئيس الوزراء نوري المالكي. ويطرح تسجيل "حزب الدعوة" الذي يرأسه المالكي أعلى الأصوات في الانتخابات، الأسئلة التالية المنتقاة من تقارير صحف عالمية وعربية: هل الانتخابات طائفية بامتياز، أم أنها مؤشر إلى تشرذم الفكر الطائفي؟ وهل تدل نتائجها على تخلي "حزب الدعوة" عن هويته الطائفية، أم تؤكد سياسة "التقية" التي يؤمن بها الحزب ذو التوجهات الشيعية؟ وهل فقد منافسه، "المجلس الأعلى الإسلامي" بقيادة الحكيم، صفة "الأعلى" بعد حصوله على 10% فقط من الأصوات؟ وهل تؤشر نتائج الانتخابات إلى اندحار الطائفية، أم أنها مطالب وطنية من داخل التركيبة الطائفية في استعادة الأمن وسلطة الدولة وتوفير الخدمات الأساسية وتعزيز الحكم المركزي ورفض الفدرالية؟ وهذه ليست أول مرة يعترض "حزب الدعوة" على المحاصصة الطائفية، وكان ذلك سبب خروجه عام 1992 من تجمع "المؤتمر العراقي" الذي أسسه الجلبي، وشكل قاعدة الأحزاب والجماعات المتعاونة مع الغزو الأميركي. ودور "المؤتمر العراقي" معروف على نطاق عالمي في تأليف مزاعم "أسلحة الدمار الشامل العراقية" التي شكلت الحجة الأساسية للحرب التي شنها بوش على العراق. ما علاقة ذلك بتوجيه الانتخابات الحالية "الضربة القاضية" لحزب "المؤتمر الوطني"، كما توقعت وكالة الأنباء العراقية المحلية "ملف برس"؟ المعروف أن حزب الجلبي فشل حتى في تأمين مقعد واحد لرئيسه في الانتخابات البرلمانية عام 2005. مقابل ذلك سجل محافظ كربلاء السابق يوسف الحبوبي الذي فاز بأعلى الأصوات، "المفاجأة الأكبر" للانتخابات، حسب وصف "ملف بريس". فالحبوبي الذي أخرج بعد الغزو من منصبه كمحافظ لكربلاء بتهمة انتمائه السابق لحزب "البعث" خاض الانتخابات الحالية بقائمة انفرادية تحمل اسمه فقط، مع ذلك نال أصواتاً أعلى من "المجلس الأعلى" وتيار الصدر، وقائمة المالكي الكربلائي الأصل! هل يعود فوز الحبوبي في كربلاء، والتي تعتبر معقل المرجعية الشيعية، إلى سجله في إعادة إعمار المحافظة خلال أسابيع بعد حرب عام 1991، واستئناف الخدمات العامة في المحافظة بعد يومين من الغزو الأميركي عام 2003؟ وهل ينفع برنامج الحبوبي الخدمي وتجربته الإدارية، الأحزاب والجماعات غير الدينية التي حققت نتائج متواضعة في جميع المحافظات، باستثناء نينوى حيث فازت بأعلى الأصوات؟ لعل أهم سؤالين هما: أولاً؛ هل الطائفية كأسلحة الدمار الشامل لا وجود فعليا لها لكنها يمكن أن تدمر؟ وثانياً؛ هل صحيح أن "الغرب فرض الطائفية على السياسة العراقية"؟ هذا هو عنوان بحث الأكاديمي النرويجي "ريدر فيسر" الذي استقصى "العملية المكثفة التي اتبعها الغرب لجعل الطائفية الرواية الأساسية للسياسات العراقية". وذكر البحث المنشور بالإنكليزية في مجلة Arab Studies Journal أن الحكومات الغربية تتعمد إنتاج الطائفية بأشكال خفية مختلفة، لفرض الهيمنة على الهويات الطائفية واستغلالها لتحقيق مصالحها الخاصة. ويقوم بذلك في حالات أخرى الإعلام الغربي الذي تجتذبه في الطائفية بساطتها، والدراما المؤثرة التي تضفيها على القصص الخبرية. يقول المثل الصيني: "لا تبحث عن الحمار الذي تمتطيه". ولا يوجد في تاريخ العراق حمار كالطائفية التي يتبرأ منها جميع من امتطاها. والطائفية ليست الطائفة، وينبغي عدم الخلط بين الاثنين. يعرف ذلك عامة العراقيين، لكنه يفوت أحياناً على كتاب أكاديميين عراقيين يذكرون بحسن نية أن الطائفية ليست عيباً. إنها عيب يتنصل منه حتى الطائفيون، ومذمة يبغضها جميع العراقيين، بل يتطيرون من ذكرها إلاّ في معرض النكت التي دمّر الاحتلال مرحها وبراءتها. ولعل أقرب مرادف للطائفية مصطلح العصبية، وأفضل تعريف للعصبية جاء في الحديث النبوي الشريف عندما سُئل الرسول "هل من العصبية أن يحب الإنسان قومه؟"، فقال: "إنما العصبية أن ترى شرار قومك أفضل من خيار غيرهم". والمذاهب والمعتقدات في العراق، كما في أي بلد، وليدة ظروف جغرافية وتاريخية واجتماعية محلية وإقليمية، وهي من مكونات الوضع الجيوبوليتيكي للبلد. وقد لعبت هذه العوامل الدور الرئيسي في ميلاد المذهب الشيعي في العراق الذي يمثل البوابة الشرقية للوطن العربي. وإذا كان التنوع الإثني أو القومي يعكس غنى الموروث الجيني للبلد، فالتنوع الديني والمذهبي تعبير عن ثراء الموروث الروحي للسكان، وتجسيد قدرتهم في حل معضلة موقعهم على الفالق الزلزالي لأمم مختلفة. وتشكل هذه الواقعة الجيوبوليتيكية أساس الحضارات العظمى التي أشادها سكان العراق عبر التاريخ. ويهدد الاحتلال الأجنبي والأنظمة غير الوطنية التي نجمت عنه، ثروات البلد الروحية الدينية والمذهبية والقومية، كما يهدد ثرواته الطبيعية. وتقع على عاتق الأجيال الجديدة من الوطنيين العراقيين مهمة حماية هذه الثروات. فالوطنية ليست عواطف وأناشيد ورايات، بل هي أساس وجود البلد وقوام وحدته، إنها العقد الأساسي للدولة مع مواطنيها. والوطنية، كما تبيّن تجربة العراق، تكلف من يفرّط بها ثمناً باهظاً. هذا هو سبب القدسية التي أحاط بها سكان العراق سلطة الدولة ورموزها عبر التاريخ. وليس تاريخ العراق وحده الذي ولد في أحضان الجغرافيا، بل السياسة أيضاً، بما فيها عدم التماسك الذي يميز الفكر السياسي العراقي منذ القدم. لاحظ ذلك عبد الرضا الطعان، أستاذ علم السياسة بجامعة، بغداد في كتابه "تاريخ الفكر السياسي في العراق القديم". واستعرض الطعان جغرافيا البلد السياسية التي أنشأت وحدات متعددة تملك كلٌ منها كهانتها الخاصة وتقاليدها، وحملت الأقوام المهاجرة إلى العراق القديم أفكارها الخاصة بها. وحافظ الإنسان العراقي عبر هذه التطورات على النظر إلى السلطة السياسية بكل أبعادها الكونية والدينية، واعتبار "الواقع ككل له تركيب الدولة".